الـمــرأة بـيـن آذاريــن
سوسن جميل حسن
بعد خمسين عاماً من المسافة الزمنية التي تفصلنا عن حدث صار، لكثرة ما احتفلنا به وكتب عنه وألّفت الأبحاث والكتب حوله، صار ملتصقاً في ذاكرتنا كدمّل ينبض بألم الصديد المحتقن الذي لا يسكن إلا بتفريغه. الحدث كبير وعظيم وخارق وخالق، إنه «ثورة» والتاريخ هو «الثامن من آذار لعام 1963»، فهل هي مصادفة عبثية كما نعتقد بشأن كل مصادفات القدر، أن يحمل آذار بين جنباته انتفاضة أخرى تطمح إلى تصحيح المسار وليّ عنق التاريخ وتطويع تجاربه الفريدة والطافرة عن مساراته أحياناً بعظمتها ونيلها رتبة النبوة والرسالة؟ هل نحن في حالة «حركة تصحيحية» بعدما هزت أركاننا وبعثرتنا أبواق التصحيح الذي لحق بثورة بيضاء جاءت على شكل انقلاب عسكري بترتيبات سريعة ومتسارعة حدّ دفعها بفارس واحد ووحيد ممن أجادوا ترويض حصان الثورة المزعومة إلى انقلاب آخر يطيح من امتطى حصان الثورة ويعيد الأمور إلى نصابها الذي ابتدأه بتعديل دستوري يؤسس لمرحلة مقبلة كان يرسمها على نية الأبدية؟
كانت المناسبة التي تستقطب الزمن بالاحتفال بها وإحياء ذكراها التي تشتغل القيادات الجماهيرية كلها وأركان الدولة والمؤسسة العسكرية والأمنية والتربوية والتعليمية وغيرها، على إبقائها ماثلة في أذهان الناس كي لا ينسوا أن مقومات الحياة بالمطلق هي من إنجازها، فلولاها لما كان هواء ولا ماء ولا خبز ولا لباس ولا أمل ولا طموح، هي الحركة التصحيحية، التي تمرّر كل عام يوماً واحداً ترصد فيه وسائل إعلامها لتحية كسولة ملولة لذكرى الثورة التي جاء التصحيح ليقوِّمها، ثورة الثامن من آذار، معيدة إنتاج نفسها إعلامياً حتى تصبح كل المناسبات الأخرى، حتى لو كانت عالمية، هي من صنع التصحيح وإبداعاته، إلى أن وصل بنا الأمر أن اعتقدنا أن اليوم الذي يحتفل فيه عالمياً بالمرأة هو أحد إنجازات الحركة التصحيحية المباركة.
الثامن من آذار «يوم المرأة العالمي»، فأين هي المكانة المنشودة لنصف المجتمع، ولفرد من اثنين يفترض أنهما ينتميان إلى فصيلة الإنسان؟
إن كانت ثورة الثامن من آذار نادت بأهمـية دور المرأة ومسـاواتها مع الرجل، وإتاحة فرص التعليم والعمل لها وتبوّء المناصب وشغل المراكز الإدارية بكل مراتبها، فإن الواقع واستقراء التاريخ، الذي نقرأ إرهاصات نتائجه اليوم، يظهر لنا أن المرأة لم تتساوَ في مواطنتها وإنسانيتها بشكل كبـير إلا في انعـدام هويتها كفرد من أفراد المجتمع وذوبانها في الهوية الشمـولية التي فرضها نظام سعى لتوحيد كل مناحي الحياة في شكل نمطي شامل يسلب كل فرد خصوصيته وإرادته المستقلة ورأيه الحر، وبالتالي يفقده القدرة على إبداع أي شيء حتى حياته الخاصة.
تلك الغربة عن الذات والإحساس بالقهر والذلّ والخوف المقيم في النفس وصدى الصوت الواحد والحلم الواحد والتفكير الواحد، إذا سمح بالتفكير، جعل من النفس أرضاً عطشى تلوب خلف ماء الحياة لتدرك وجودها، ولم يكن متاحاً لها غير الحفر في بطون الدين والتنقيب عن ماء الحياة، بمباركة من النظام الذي راح يكرّس بلعبة محبوكة تماماً أدواراً لرجال الدين، منهم من يستعملهم أبواقاً له، ومنهم من يتواطأ مع مرجعياتهم فيعقد الصفقات ويترك لهم مساحات من الأرض يمارسون عليها التبشير بدعواتهم شرط ألا يقتربوا من عرشه، بعد أن كان النقاب والحجاب وكل السواتر قد غلفت العقول التي تشكل الخطر الأكبر على سيادته.
أين هي المرأة التي كان النظام يحتفل في يومها العالمي في الثامن من آذار وقد حفلت السجون، وما زالت، بنساء معتقلات على الشبهة أحياناً، ولأنهن تبنين رأياً نقدياً لممارسات سلطة تمعن في إذلال الإنسان وقهره؟ أو لأنهن أنجبن أبناء عصاة قالوا لا للطغيان؟ أو لأنهن أحببن فرساناً ربما كانوا يحاربون طواحين الهواء في معظم حالاتهم؟
أين هي المرأة التي يحتفل بيومها العالمي ولم تشتغل الحركة الواثبة على سدة الحكم على تمكين بيئة ثقافية واجتماعية توفر للمرأة مكانها الإنساني؟ هل كان يكفي أن تكون رفيقة حزبية أو شبيبية أو تقفز في المظلة لتحطم الرقم القيـاسي في معـدلات القبول الجامعي، وفي المقابل يتلقفها مجتمع ما زال غارقاً في جاهليته وثقافته الذكورية لينعتها بألقاب أكثرها احتشاماً أنها «أخت الرجال» في محاولة لإظهار حسن نية بأن رفعها إلى مرتبة أخت الرجال، هذا إذا لم يقل عنها «مسترجلة». أين هي المرأة التي يحتفل بعيدها وما زالت قوانين الأحوال المدنية المستمدة من الشريعة تضعها في الخانة الأدنى وتضيّق عليها إنسانيتها، تعدد زوجات، الطلاق، الإرث، حتى المهر بمفهومه الذي يكرّس دونيتها ويحوّل العلاقة الحميمة بينها وبين الزوج إلى مقايضة لا تليق بكرامتها؟
عقود والمرأة ترزح تحت تهديد العنف بأشكاله المتنوعة، ويرزح معها الرجل أيضاً كمواطن في دولة ينسحب فيها القانون إلى كواليس الغرف المظلمة دافعاً مكانه قانون الظل والعتمة ذا السطوة المباركة بقوة الأجهزة الأمنية والمحسوبيات المسنودة إلى رموز السلطة بدوائرها التي تضيق، كلما ارتفعنا درجة في سلم السلطات، إلى أن تحتكر أكبر قبضة في يد عائلة واحدة.
ويأتينا ربيع واعد يجتاح المنطقة بأسرها كان لا بدّ له أن يصرخ معلناً عن قدومه، لكنه يسقى بالدم بدلاً من ماء الحياة، يتخلق العنف بأبشع صوره، وتدفع المرأة النصيب الأكبر من الموت. تموت في الميدان، يموت أبناؤها، يموت أطفالها يموت زوجها، تموت هي معهم وبهم وعليهم.
المرأة والحرية توأمان يبحثان منذ آلاف السنين بعضهما عن بعض، المرأة صاحبة البطن الخلاقة التي تمنح الحياة، لا يمكنها أن تصنع حياة كريمة مزدهرة بدون حرية، فيتحوّل الربيع الواعد بالحياة، بالتوصيف البسيط له بما يحمل من تفتح لبذور الأرض، يتحول إلى قمقم يهدد بحشر المرأة مرة أخرى مع أحزانها وأحلامها المجهضة وطموحاتها الموءودة وهي جنين.
نزلت المرأة منذ بداية الانتفاضات العربية إلى الميدان، نزلت بسلميتها وسلامها، لكنها دفعت الثمن الأكبر، دفعت أطفالها قرباناً أولياً، ثم تتالت القرابين، وشيئاً فشيئاً بدأت تباشير المكانة الجديدة التي تنتظر المرأة في الحياة البديلة، فتاوى تنهال من هنا وهناك، تكرّس ثقافة كانت تنمو في عتمة نفوسنا وقد حوّلها الاستبداد السياسي إلى مستنقعات تنمو فيها الطحالب واهمة إيانا بأننا نحيا، اتهامات للنساء والفتيات اللواتي نزلن إلى التظاهر بشرفهن، الوسيلة الأجدى لطعن كرامة المرأة، حجاب يفرض على الطفلة من سن الحضانة، نقاب يكون بديلاً من اللباس الموحد الذي حاصر أجساد وأحلام فتيات المرحلة السابقة، فتاوى تبيح بدعاً جديدة للزواج تتبناها بعض الجهات التي هجمت على ثورات الربيع العربي وتسوقها مستغلة وسائط الثورة الرقمية، مدعية خدمتها للجهاد.
آن أن تكون لهن، ثورتهن المبشرة بالحياة.
السفير