الـ “لا” الرابعة لهيئة التنسيق الوطنية
بعد إخفاق المعارضة السورية في توحيد صفوفها وإعادة هيكلة مؤسساتها, دخلت الثورة السورية حالة من النمطية ستجعل الشعب السوري يستمر وحيداً أعزل في صموده في وجه آلة القتل العسكرية, وذلك بالتواطؤ غير المعلن بين دفتي مجلس الأمن – روسيا ومن ورائهما مجموعة دول »البريكس« والولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل – فإن كان الدعم الروسي والإيراني للنظام السوري علنيا وله مبرراته المصلحية التي لا جدال فيها, وإن كان التآمر الاستخباراتي الإسرائيلي فاحت رائحته وله أيضاً ما يبرره, لكن المفاجئ هو الإعلام الأميركي المستمر في »بروبا غاندا« مفضوحة مضللة مناقضة لسياسات أصحابه العدائية لشعوبنا التي يحق لها دائماً أن تتساءل: هل أسلحة النظام السوري كلها روسية المصدر أم أن بعضها أميركي.
أما المرفوض جملةً وتفصيلاً فهو معارضة بائسة لم تتوقف عن الإساءة لمكتسبات الثورة عبر شق الصف الثوري برفض المجلس الوطني دعوات الوحدة المتكررة وانقلابه السافر على اتفاق الوحدة الموقع في 29/ 12 / 2011, مع استمرار عرابيه بالتذرع أن المعارضة في جميع دول الربيع الأخرى لم تكن موحدة وفقاً لفكرهم الاستنساخي للثورات, متجاهلين بذلك اختلاف التركيبة الديموغرافية بين شعوب الربيع العربي, فالتركيبة السورية المتنوعة طائفيا وقومياً لا يٌمكن أنْ تُقارن بمثيلاتها في دول الربيع الأخرى! وهو الأمر الذي أثبت أمراً من اثنين : إما غياب الشفافية و العمل المؤسساتي وآليات صنع القرار داخل المجلس, وهو ما أكده العديد من أعضائه أنفسهم وبخاصةً المنشقين عنه ولعل أهمهم هيثم المالح, أو عدم استقلالية المجلس نفسه, التي مردها الحقيقي تسابق الكثير من أعضائه للارتماء والانبطاح في أحضان مخابرات أي دولة تدعم نفوذهم الشخصي في المعارضة من دون النظر إلى أي اعتبار آخر مهما كان نوعه, فالبعض من أعضاء المجلس الوطني تعود أن يكون حملاً وديعاً لا يُناقش, ولا يبدي رأياً حيادياً عندما طرحت دولة مثل تركيا وثيقة العهد الوطني في مارس الماضي, بل يتعمدون مجاملة الدول الراعية للمجلس متنازلين عن استقلالية القرار المعارض في سبيل رضا الإعلام الخليجي, لكنهم في المقابل لا يتورعون عن الدخول في أي خلافات في صفوف المجلس لأهداف تنظيمية خاصة, كتلك المتعلقة بالتمثيل الإعلامي, بينما دأبت هيئة التنسيق الوطنية – في الضفة الأخرى للمعارضة – على تفسير العلاقة بين المجلس و الدول الراعية – من وجهة نظرها – على أنها علاقة سيطرة على المجلس تارةً , أو علاقة اصطفاف طائفي تارةً أخرى, وهو ما ظهر جلياً في علاقاتها الباردة مع تلك الدول, علاقات وصلت في كثير من مراحلها إلى قطع شعرة معاوية من دون مسوغات سياسية مقبولة, فمن جهة رفضت الهيئة المشاركة في مؤتمر إسطنبول 28 سبتمبر 2011 المهم في تشكيل المعارضة من دون سبب وجيه عدا احتضان تركيا له, كما أن ضعف تنسيقها المتعمد مع المملكة العربية السعودية ودولة قطر من جهة ثانية زاد من حدة التجاذبات بين طرفي المعارضة, وكانت عائقاً في وجه تقاربهما. ورغم أن مجريات أحداث الثورة والمواقف الدولية المتعلقة بها تثبت في كل مناسبة صوابية نهج هيئة التنسيق السلمي إلا أن الأسلوب اللاواقعي لخطابها السياسي وأداءها الإعلامي بقي الحاجز الأبرز لسوء الفهم الشعبي وتدني مستوى تمثيلها في الشارع السوري! أسلوبٌ حكمته الظروف التنظيمية للمعارضة السورية, فبينما تعمد أعضاء المجلس الخروج من البلاد الأمر الذي جعلهم يمارسون الديماغوجية الإعلامية من أوسع أبوابها, عمل النظام السوري على اخماد صوت هيئة التنسيق والأقليات الدينية في الداخل عبر الحصار وحملات الاعتقال بهدف إعطاء الثورة طابعا طائفيا, فقسمٌ مهم من قيادات الهيئة موجودون في الداخل السوري ومستوى خطابهم الإعلامي أقل حدةً تحت وطأة الضغوط الأمنية, بينما بقي الدكتور هيثم مناع رئيس الهيئة في الخارج : الناطق الأبرز باسمها, فكان أسلوبه ونشاطه هو الطاغي على أدائها, وخلفيته الحقوقية إحدى أهم ميزاتها التي جعلته في موقع سوء الفهم من قبل الشارع الثائر , فخبرته الطويلة في مجال حقوق الإنسان جعلت مواقفه العقلانية لا تتناسب مع ثورة شعب يتعرض للإبادة , وإنْ كان شعبنا في الداخل لا يشك بمصداقية الكثير من أطراف المعارضة التقليدية ومنهم قيادات في الهيئة نفسها, نظراً الى تاريخهم الوطني المشرف, لكنه تحت وطأة العنف أولاً, وتحت تأثير إعلام المجلس الوطني ثانياً, فإنه عجز عن تقبل سلمية الثورة أو تفهم ضرورياتها في دعم الوحدة الوطنية ضد النظام الذي يحاول إجهاض الثورة بتحويلها لحربٍ أهلية, إضافةً إلا أن الوضع الدولي في الشرق الأوسط يتطلب ثورة سلمية حصراً و ذلك لأسباب سياسية بحتة فقط.
بالمقابل يأتي إصرار هيئة التنسيق على فكر الثورة السلمي – فكر غاندي – في وقتٍ أثبتت فيه الثورة الليبية نجاحاً باهراً عبر تدخل »الناتو«, ورغم أن التاريخ يشهد بفعالية أكبر للثورات السلمية ضد الديكتاتوريات إلا أن السلمية ليست الحل الناجع دائماً خاصةً مع أنظمة قمعية متوحشة.
دائماً سعت هيئة التنسيق لتبرير السلمية بمبادئ غاندي في اللاعنف, من دون التركيز على حساسية سورية الدولة إقليمياً ودولياً وعلاقاتها الروسية السياسية والإسرائيلية غير المعلنة, ونفوذها الاقليمي الذي تتقاطع فيه سياسات الشرق والغرب.
وخلافاً لتوجهات رئيس الهيئة هيثم مناع الذي أعلن قبوله للإخوان المسلمين شريكاً سياسياً, فإن التركيبة التنظيمية في هيئة التنسيق التي تعتمد عادةً على الإقصاء المتعمد للإسلاميين منها, ولا سيما من قبل ناشطين شباب متطرفين في المكتب التنفيذي للهيئة في الخارج , قد زادت الحساسيات مع المجلس الوطني, وإن استمرار بعض من ناشطي الهيئة باتهام الإخوان المسلمين بالإرهاب يخلق معارك »دونكيشوتية« لا مبرر لها, فالثورة السورية أعطت الإخوان المسلمون صك البراءة من أحداث الثمانينات, والمعارضة البارزة ريما فليحان صرحت اخيرا: بوجود شكوك حقيقية حول هوية من يقف وراءها, ورغم عدم مثالية و فعالية الجيش الحر – الذي طالما تنتقده الهيئة – إلا أنه تركيبة وطنية تحوي عناصر من مختلف الطوائف وخالية تماماً من العناصر الإرهابية , و هو ما يؤكده النقيب عمار الواوي من الجيش الحر.
إن التحريض ضد الإسلاميين في أنشطة بعض أطراف الهيئة مع ميلهم غير المبرر للسياسات الإيرانية هو بمثابة الفيتو المشروط على الثورة, وهو ال¯»لا« الرابعة غير المعلنة »لا للإخوان« : التي تؤكد رفضهم لنتائج الثورات العربية الأخرى في وصول أحزاب الإسلام السياسي إلى واجهة الحكم, هذه ال »لا« هي الجزء المظلم الخفي في خطاب الهيئة الذي جعله بارداً و إقصائياً مما عمق الهوة بين طرفي المعارضة و جعل توحيدها أمراً مستعصياً.
فراس الأسعد
طبيب وكاتب سوري