الفتى الذي أشعل الثورة
إيلي عبدو
تذكر صحيفة “ميل أون صنداي” البريطانية أن صدفةً أشعلت الثورة السورية عندما جاء الفتى ابن الـ15 عاماً، بشير أبازيد، وكتب على حائط مدرسته ليلاً، مع رفاقه، عبارة “جاك الدور يا دكتور” و”يسقط بشار الأسد”. الصحيفة نشرت أخيراً، للمرة الأولى، صورة الفتى أبازيد بوصفه مُطلق شرارة الثورة السورية.
الدلالة الرمزية للصورة بدت ضعيفة في العام الثاني للثورة السورية. إذ اكتفى السوريون بمشاركة الخبر على صفحاتهم “الفايسبوكية” ليمر سريعاً، مثل بقية الأخبار اليومية. أي أن الشاب أصبح البوعزيزي السوري للحظات على صفحات السوريين، ثُم عاد ليُعدّ من “أطفال درعا” الذين لا يكف المعارضون عن ذكرهم على الشاشات كل يوم.
لماذا لم تضفِ صورة بشير أي قيمة جديدة للثورة؟ وأي صورة تكثّف الثورة السورية في رمزيتها كنقطة بداية، علىى غرار صورة البوعزيزي واسمه في تونس، أو خالد سعيد في مصر؟ وهل كانت صدفة فعلاً هي التي أشعلت الثورة؟ الأرجح أن الصحيفة البريطانية أخطأت في استخدام تعبير “الصدفة”، أو أنها إشكالية سياق غير مفهوم حصر الشرارة في قدريّة ما وأطفال أو فتيان صودف عبورهم، وصودف أنهم كتبوا على جدار. ليس لأن الأطفال هامشيون في المشهد السوري، بل لأن البداية كانت متداخلةً وخاصة على صعيد الصورة التي غاب عنها الأطفال. والدليل الأكبر على ذلك، اختلاف السوريين في ما بينهم في مناسبتين متتاليتين من ذكرى الثورة، على توقيت البداية ومكانها. “الويكيبيديا” أيضاً لا تعرف متى بدأت الثورة السورية، إذ نرى مثلاً حوادث متفرقة تشبه حادثة البوعزيزي في مناطق مختلفة من سوريا، جاء بعضها قبلاً وتأخر البعض الآخر.
كما أنها ليست صدفةً تلك التي تصنع ثورةً ومن ثم أزمة إقليمية ودولية لم يعرف لها مثيل. فليس منطقياً أن نمرر للتاريخ كحكايا عاطفية، عن خطوط الأطفال التي امتدت من جدران المدرسة في درعا، إلى شوارع غارقة بالدم حلب، وكل ذلك بالمصادفة. فسياق وصول “الربيع العربي” إلى سوريا كان واضحاً، من تونس إلى البحرين مروراً بمصر وليبيا. فلو لم يكن أطفال درعا، ربما كانوا أطفال حلب، وإن لم تكن تظاهرة الحريقة، فستكون تظاهرة في بابا عمرو.
صورة الأطفال لم تكن حاضرة في البداية، وإنما لجأ بعض وسائل الإعلام إلى عرض غرافيتي على الجدران في غير مكان، وفي كل مرة يُذكر الأطفال. في المقابل، كانت صورة التظاهرة الأولى في حي الحريقة، واعتصام أهالي المعتقلين أمام وزارة الدخلية، أشد حضوراً وأعلى رمزيةً، لكنها مع الوقت أيضاً فقدت قيمتها البدئية أمام سيل الأحداث السورية ويومياتها، لتحل مكانها صورة جديدة للطفل حمزة الخطيب وبدورها تضمحل أمام صورةٍ أخرى تستحوذ المشهد على السوري لفترة أخرى.
هذا لا يعني أننا أمام ثورة لا تحمل قيماً رمزيةً تعبّر عن مسيرتها، لكن الرمز هنا يكون أقرب إلى فوضى السيل الصوري المتجدد، بحيث يصبح من الصعب تحديد نقطة واحدة للبداية ورمزاً واحداً للثورة، لأنها ثورة لم تُحصر في ميدان واحد وساحة واحدة وليست ضد مستبدٍ يجلس في قصره وحيداً. بل ينعكس اتّساعها الجغرافي وتداخلها الأقليمي وتنوع سياقاتها وتجددها، على الصورة التي تتجدد كل يومٍ وكأن الثورة ذاتها تبداً كل يوم.
صحيحٌ أن الأبازيد ورفاقه حرّكوا حمية الدرعاويين، بعدما تعرضوا للتعذيب في سجون الأمن السياسي، لكن هذا الحال ليس بجديد على السوريين، فهم عاشوا أكثر من أربع عقود في أقبية التعذيب كباراً وصغاراً. الجديدُ هو الصورة التي بدأ يلتقطها السوريون لواقعهم، ويراها العالم بأسره. ربما لو خطر في بال أطفال درعا وقتذاك أن يلتقطوا صورة للحظة، لحظة الكلمة الأولى التي رفعوها في وجه الديكتاتور، لتغيرت الحسابات كثيراً.
المدن