الفرق
عمر سليمان
ما الفرق بينَ شبابيكَ ترتديْ خشبَ السنديانِ هنا
وبينَ تلكَ التي في دمشقْ؟
بينَ هذا المعبرِ الضيِّقِ الذي يتسعُ لأفكارِ اللاجئِ
مثلما يتسعُ لأصدقاءِ الأرصفةِ هنا
وبينَ شارعٍ كانَ يناديني كنديمي ما إن تلمسْ أذنايَ هواءَ دمشقْ؟
/
علَّقوا بدلاتهمُ العسكريَّةَ قربَ ياسمينةِ بيتٍ دمشقيْ
وما انتبهوا إلى أنَّ في ياقاتهمْ أقحواناً-نسغهُ دمعٌ وعطرٌ فرنسيٌّ-أهدتهُ إليهِ عشيقاتهمْ قبلَ الرحيلْ
وأنَّ الأقحوانَ ينبتُ في دمشق..
جلبوا الخيولَ والعرباتِ والقرميدَ والبنادقْ
لكنهم لم يقصدوا أن تطيرَ منَ السفنِ الحربيةِ أوراقُ رامبو الأخيرة لتصبحَ أجنحةً لنوارسِ الساحلْ
لم ينتبهوا إلى أن أصواتَ أرجلِ خيلهم تشربُ منها الحجارةُ مطراً باريسيَّاً عتيقاً
ولم يدركوا أنَّ (سان جيرمان) تسللتْ بجواهرها إلى صناديقِ خمورهمْ
قطعتْ معهمُ البحرَ
وأحبَّتْ فتىً دمشقياً
فأنجبا الصالحية؟!
كيفَ وهم لم يعيروا حينَ مروا اهتماماً لذاكرتهمْ: معابرِ باريسَ التي بقيتْ ملامحها سربَ فراشاتٍ في (مدحت باشا)؟
كيفَ لا وقبضاتهمْ على جدرانِ بيوتِ دمشقَ مددتِ (الكومادينا) و (البترينا) و(الديكور) إلى جانبِ (الديناميتْ)؟
لكنه كان لابدَّ من أن لا ينتبهوا للزمنِ الذيْ يقنصُ الملوكَ منْ تحت الطاولة
ليشعَّ وجهُ الفتاةِ منتصراً في لعبةِ الورقْ
/
صرخ الدمشقيونَ (غزوٌ) و (بارود)
وصلَ الصوتُ إلى أذنيْ باريسَ مخبئاً بينَ أثوابهِ (سوقْ) و (كحول) و(غزالة)
كما تخبئ النسوةُ بنتاً مطلوبةً للأمنِ عبرَ حواجزِ التفتيشْ
يشبهُ هذا ما طُبِعَ في آخر نظرةٍ لآخرِ جنديٍّ فرنسيٍ هناكْ:
سراجٌ دمشقيٌ
ما زالَ يضيءُ تمثالَ جنديٍّ مجهولِ الهويةِ في باريسَ
ولا ينطفئْ
/
عندما عادوا كانَت ألوانُ أوانيْ الزجاجِ المعشَّقِ محفورةً في جعباتِ الذخيرة
وخبزُ الصاجِ مطبوعاً فوقَ خرائطِ المعاركْ
وفي زنانيرهمْ (سوقُ الحرير) الذي ما زالَ معلَّقاً فوقَ صدورِ الفرنسياتِ
كما يعلقُ (معبر بْرَادي) فخَّارَاتٍ رأى في طينها وجهَ سوقِ الحميدية
فعانقَ ظله ونارنجه وأحبه
أحبهُ حتى ذابَ في صداهُ وعطره
وأحبهُ حتى صارَ مثله
/
يا حماماً بلونِ رمادِ السماءِ ورمادِ الحروبْ
يا من تمارسُ الحُبَّ في باحةِ الأمويِّ
فيلتقطُ أبناؤكَ الحَبَّ في ساحة سان ميشيلْ
أقواسُ باريسَ أيديْ أمهاتٍ هرماتٍ تلتفُّ على أطفالِها: أبوابِ دمشقْ
باريسُ أمُّ دمشقْ
الوردةُ الشاميةُ عينُ مراهقةٍ تمسحُ قطتَها في مقهى قربَ (قوس النصرْ)
باريسُ بنتُ دمشقْ
والسينُ أخو بردى الأكبرُ
يلبسانِ في آذارَ قميصينِ أخضرَينِ
خيطتهما امرأتانِ ليلةَ الحربِ على زورقٍ مضاءٍ بسراجِ تاريخِ المتوسطْ
/
يا حماماً بلادهُ فيهِ:
لا فرقَ ما بينَ (هنا) و(هناكَ)
فالأماكنُ ليستْ إلا أعينُ الغرباءْ
لكنَّ عينَ اللاجئِ هنا
ونظرهُ هناكَ
أذنُهُ هنا
وسمعهُ هناكَ
ثغرُهُ هنا
وذوقُهُ هناكْ
أقسى الغربةِ أن يستيقظَ المرءُ على مرآةٍ تعكسُ لهُ وجهينِ مختلفينِ بنظرةِ رعبٍ واحدة!
ليركضَ في طريقٍ ينشقُّ بينَ رجليهِ
يناديْ أمَّيْهِ:
يا امرأتانِ تتساحقانِ كغيمتينِ على فراشِ الحربِ
فيملأ العسلُ أردافَكما برائحةِ الخلودِ:
ضمَّا اللاجئَ كلما خنقَ البكاءُ الدموعَ
ضماه كلما رمى بتشظِّيْهِ تحتَ الشبابيكِ
ومارسَ عاداتِهِ في أكلِ السندويشِ على الرصيفِ
وعدِّ وسائلِ الانتحارِ والسجائرِ
وافتراضِ أنهُ سينامُ عما قليلٍ دائماً
ضماهُ كلما ناديتُما:
شكراً لكمْ أيها المحاربونَ الضحايا
لم يشتعل رصاصكمْ إلا لأنه كانَ مغلفاً بكحولنا
ولم تتمزقْ جلودكم إلا لتنفذَ منها أشكالنا مثل جنياتٍ في آخرِ الليلْ
شكراً لفعلكمْ على ما فعلَهُ ويفعلُه
شكراً لكمْ
وسوفَ نصليْ لحربكمْ إلى الأبدْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمر يوسف سليمان
باريس
18/4/ 2013