الفرنسيات الثلاث والمجتمع السوري
رستم محمود
في صيف عام 2005 كنت أتجه من دمشق، مع صديقتيّ الفرنسيتين دنيا وسوزي، لزيارة بلدتنا البعيدة في أقصى الشمال الشرقي من البلاد. كانت الأوضاع الأمنية بالغة الدقة في مدينة القامشلي وقتها. فالأحداث التي اندلعت قبل عام واحد، والتي عرفت بـ”أحداث القامشلي” خلقت حساسية أمنية مفرطة من قبل الأمن تجاه أي شيء يثير الريبة هناك. لكن صديقتاي، خلا زرقة العيون، لم تكونا تختلفان أية أثارة. فكل تفاصيلهما كانت بالغة الشبه بكل تفاصيل باقي المقيمين في ذلك المكان، الملبس والمأكل والسلوك، وحتى باللهجة العربية المطعمة ببعض التكسير، كما يفعل أكراد وأرمن وسريان وأشوريو الشمال السوري. أمضت الصديقتان عدة أيام مع عائلتي بكل تفاعل، عائلتي الصغيرة والكبيرة على حد سواء، ودون أن يتمكن أي من الطرفين من ملاحظة أي شيء غريب في سلوك الآخر. هناك في الشمال الشرقي الأقصى، حيث وقفنا على تلة في قرية “عين ديوار” على نهر دجلة في المثلث الحدودي السوري التركي العراقي، وقفت دنيا وسوزي وقد أفردتا جناحيهما قائلتين: لقد مررنا بهذه البلاد كلها، من سهول الحوران في أقص الجنوب، إلى هذه التلة في اقصى الشمال الشرقي من البلاد، لقد بات يحق لنا أن نقول إننا نعرف سوريا …”.
كان يمكنك ان تجدهن من قبل، في كل مكان من دمشق، في الأسواق والمراكز الثقافية والمقاهي ودور السينما والجوامع والكنائس. حيث كانت الصديقتان، بالإضافة إلى صديقتهما الثالثة نتاليا، يعشن في دمشق منذ عدة سنوات، يتعلمن اللغة العربية، ويتلقين العلوم الإنسانية المشرقية، في المركز الفرنسي للدراسات الشرقية في دمشق . حيث كن قد أستأجرن منزلا متواضعا في حي “الجادات” في أعالي جبل قاسيون، ويمارسن تفاعلا ثقافيا واجتماعيا كاملا مع المجتمع السوري، بمختلف شرائحه وطبقاته . ذلك التفاعل الطبيعي الذي كان أساسا سبب معرفتي بهم. ففي إحدى ليالي الصيف الدمشقية الطويلة، في إحدى حواري حي “باب توما” كنت قد استوقفت اثنتين منهن مع رجل ستيني في العمر (والد دنيا) سائلا عن أحد الحانات هناك، من دون أن ألحظ أي اختلاف ظاهر بهم عن مجموع العابرين “السوريين” في ذلك الزقاق من حي باب توما. بعد تلك الدردشة التي لم تطل أكثر من دقائق بيننا، كنا معا جميعا، على الطاولة نفسها الطاولة في حانة قريبة. بعد ذلك بأيام قليلة، كنا سوية في دير “مار موسى الحبشي” في أعالي جبال القلمون، نحن وأياهم وعشرات السياح والزوار السوريين، حيث كان يقضي الجميع في ضيافة الأب الإيطالي “باولو دالوليو” عادة أياما وليالي، من دون أي تكلّف. يأكلون من الصحن نفسه ويرقدون في المكان نفسه، ويتبادلون الأفكار في شتى المواضيع، بغض النظر عن هوية الزوار ومنبتهم . في ليال كان يسميها الأب باولو، بـ”ليالي الرياضة الروحية” كان شتى الزوار يقضون فيها أوقات طويلة في السرحان والمشي في تلك الجبال الجرداء والتأمل. حيث بعد نهارات طويلة من التعارف المفتوح، على عشرات الأشخاص الذين يمكن أن تعرفهم دفعة واحدة، وتدخل معهم في شتى المواضيع من دون أي حاجز، وتتفاعل معهم على نحو تلقائي. حيث بعد أحد تلك النهارات الاستثنائية، كان والد صديقتنا دنيا قد استفاق في احدى الليالي من نومه متسائلا: أين أنا بحق السماء !!، متأملا عشرات النائمين حوله، المنحدرين من عشرات الدول . فما كان من صديقنا غياث إلا أن أجابه بفرنسية مكسرة :أنت في جنان عدن يا صديقي، ومنذ ذلك الوقت يقع صديقنا في نوبة ضحك كلما تذكر ذلك الموقف .
مضت أيام وسنوات الفرنسيات الثلاث عادية وطبيعية مع السوريين، حتى باتت كل واحدة منهن سورية بشتى الأشكال . فإحداهن أحبت وتزوجت شاعرا سوريا، وقد ترجمت ونشرت الكثير من منتجات الأدب العربي الى اللغة الفرنسية، حيث تقيم اليوم مع زوجها المهجّر في عمان، يتابعان معا ويتفاعلان مع الثورة السورية. حيث يساندان من موقعهما وبطريقتهما قضية شعبهما السوري. الأخرى قضت فيما بعد، ونتيجة لتعرفها على المجتمع العربي-الإسلامي-المشرقي عبر التعرف على النموذج السوري، قضت سنوات من الترحال والتعرف المعرفي على عدد من المجتمعات العربية، من اليمن إلى تونس، مشاركة وناقدة لأشكال من الإنتاج المعرفي والأدبي، القصصي والروائي والشعري، في هذه البلدان. وهي منذ اندلاع الثورة تتفاعل بشكل عميق مع هذا الحدث، الذي تعتبره يمس ذاتها بشكل مباشر، في كل مناطقه وبكل تفاصيله. حيث رأت نفسها تذهب إلى حمص بعد شهور من اندلاع الثورة، لتكتشف الوجه الجديد للمجتمع والمكان هناك. هذه الأخيرة، تجهد منذ بداية الثورة، وفي أماكن تواجدها المنوعة، على تنظيم فعاليات ونشاطات مؤيدة للشعب السوري في نضاله، فتنظم مهرجانات تضامنية في الأماكن العامة، في عدد من المدن مع المتظاهرين السوريين، وتنشط لتأسيس مجموعات من العائلات الفرنسية والسورية المتآخية، بحيث يعمل الأولون على إرسال مساعدات شهرية دائمة للعائلات السورية. كما تنشط مع عدد من الجمعيات الإغاثية كي تنشّط التبرعات الشخصية الصغيرة البسيطة لهذه الجمعيات … الخ، لكن الأكثر دلالة، أن صديقتنا هذه لا تتوانى أن تعيد الحديث ليتم التركيز على الشأن السوري والثورة، أيا كان الموضوع، وحين تتحدث عن الثورة والسوريين، تقول بلا أنتباه “نحن”. صديقتنا الثالثة تزوجت أيضا صحافياً سورياً، وبقيت في دمشق مع زوجها سنة كاملة، حيث كان يعز عليها مغادرة دمشق، فكل مرة كانت تقول في نفسها، كما كان ينشد السوريون، الموعد مع الحرية بات قريبا. حيث أن وجودها الحالي في باريس، يكاد يشبه الإجازة، فكل شيء مرتب في سكناها الجديد على عجل، فإغراء العودة إلى دمشق، ومعاودة العيش مع السوريين، يغلب عندها أي رغبة أخرى.
لم تكن حكايات الفرنسيات الثلاث ومصائرهن وتعلقهن بالبنية الإنسانية للمجتمع السوري، إلا واحدة من كثير المرويات والمشاهدات التي مرت في التاريخ السوري اليومي المعاش. فهذا التفاعل البسيط والطبعي والعادي في التعامل مع “الآخر” وتحويله الى كائن عضوي اعتيادي، كان وسيبقى أهم ملمح وتعبير عن طبيعة الشعب السوري المتكون في حقب وظروف زمنية وتجارب متراكبة وعميقة . حيث شكل في نتيجتها “الهوية” الإنسانية العادية والطبيعية للسوريين، هذه الهوية التي ادعى النظام الاستبدادي بأنها غير قابلة للدمقرطة وقبول الآخر!!، والتي ادعى بانها غير جديرة بقيم الحداثة والتعبير عن الذات، حينما كان يفرض وصايته واستبداده تحت يافطة “عدم أهلية الشعب السوري” !!…..فكانت الثورة جواباً.
المستقبل