بكر صدقيصفحات سورية

الفصام بين المعارضة والشعب السوريين قبل الثورة وبعدها/ بكر صدقي

 

كانت الفترة المسماة «ربيع دمشق» مطلع القرن الحالي، أول اختبار جدي للمعارضة السورية التقليدية، بعد عقود مظلمة أمضتها في السجون والمعتقلات وتحت الأرض. فمع الهامش الشكلي المحدود الذي وفره النظام، بعد موت مؤسسه وتولي الوريث، لتعبر الأصوات المعارضة عن نفسها، تحركت هذه على مستوى إصدار البيانات وعقد جلسات الحوار فيما سمي بالمنتديات. سواء جاء ذلك نتيجة قناعة البعض منهم بنوايا إصلاحية لدى الوريث، أو لأن البعض الآخر آمنوا أن رفع الصوت المعارض قد يشكل ضغطاً عليه يدفعه إلى تقديم بعض التنازلات، وعموماً لأن المعارضين لم يملكوا ما يمكن عمله غير ذلك، انخرط الجميع في الكلام.

ولكن سرعان ما تعلم الوريث من تجربته الغضة أنه لا مكان للصوت المختلف في نظام مغلق كالذي ورثه، وأنه إذا ترك الأمور لمجراها فمن المحتمل أن يتفاقم الوضع ويصبح خارج السيطرة. فبدأت الاعتقالات والتضييق الأمني على أي نشاط معارض، وصولاً إلى اعتقالات ممنهجة لعدد من رموز المعارضة وحظر نشاط المنتديات، بين 2001 ومطلع 2002، حين حذَّرَ نائب الرئيس عبد الحليم خدام من «جزأرة» سوريا. وبذلك انطوت الفترة المسماة بـ»ربيع دمشق» وعادت المعارضة إلى نفق لا يبدو في نهايته أي بصيص ضوء. فقد استعاد النظام «برنامجه» الأصلي المصمم من قبل مؤسس الدولة الأسدية البوليسية، وإن كان التعامل القمعي مع المعارضة التقليدية لم يصل إلى مستوياته الفظيعة في عقد الثمانينات، بالنظر إلى انكشاف مدى ضعفها وتشتتها وافتقارها إلى أي قاعدة اجتماعية، أمام أنظار أجهزة المخابرات المتمرسة في قمع الأحزاب والمنظمات الأيديولوجية المنعزلة عن الجمهور.

وهكذا تمكن النظام من عزل تلك المعارضة وضبطها، من غير أن يواجه بأي اعتراض شعبي. نتذكر، في هذا السياق، عدداً من الاعتصامات نظمتها قوى معارضة، في مناسبات مختلفة أمام القصر العدلي في دمشق وأمام مبنى البرلمان وفي حديقة السبكي. بدا المعارضون في وقفاتهم الاحتجاجية تلك كاليتامى، لا يأبه بهم المارة في الشارع وهم يتلقون الضرب بالعصي ويتم تفريقهم بالقوة واعتقال بعضهم لساعات أو أيام. لم يكن قمع أجهزة النظام هو المفاجئ أو المحبط، بل تلك اللامبالاة القاتلة لدى عموم السوريين. بل إن النظام ابتكر وسيلة أكثر فاشية وإحباطاً حين كلف بمهمة قمع المعارضين وتفريق تجمعاتهم بالقوة، منظمة اتحاد الطلبة بدلاً من أجهزة الأمن، في دلالة خطيرة إلى أن «الشعب» هو الذي يلفظ تلك المعارضة، وليس النظام هو من يقمعها. قبيل الثورة السورية بأسابيع، نظم نشطاء من بيئة المعارضة التقليدية وقفات تضامن أمام السفارتين المصرية والليبية، حين كانت ثورة الربيع العربي، في هذين البلدين، في ذروة اشتعالها. قمع هذا النشاط أيضاً كسوابقه في 2002 – 2003، أي بطريقة «ناعمة» نسبياً إذا جاز التعبير، ما دام الأمر محصوراً ببضع عشرات من المعارضين المعزولين عن أي حاضنة شعبية.

ثم كانت مظاهرة سوق الحريقة في قلب دمشق القديمة، منتصف شباط/فبراير 2011، بعد فشل دعوات «فيسبوكية» لإطلاق ثورة شعبية في سوريا على غرار ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن. كانت مظاهرة الحريقة شعبية وعفوية تماماً، يتجرأ فيها أناس من عامة الشعب، للمرة الأولى، على نظام الأسد، بعيداً عن أي تأثير للمعارضة التقليدية التي فشلت في استقطاب قطاعات شعبية.

بقية القصة معروفة. وصلت الموجة الثورية إلى سوريا ابتداءً من درعا في الجنوب، وامتدت بصورة متدرجة إلى باقي أنحاء البلاد، في صورة مظاهرات شعبية سلمية ذات طابع محلي، نظمها ناشطون لا تاريخ لهم في السياسة والمعارضة، يقودهم الحماس والأمل في تخلص سريع من النظام الدكتاتوري البوليسي الذي ولدوا ونشأوا في ظله، وتربوا في فضائه الأيديولوجي من خلال مؤسساته التعليمية والإعلامية والعسكرية والبيروقراطية والحزبية.

على رغم أن بعض الأوساط والشخصيات المعارضة استبقت ثورة الشعب بانخراطها المبكر في بعض الأنشطة، كالوقفتين المذكورتين أمام سفارتي مصر وليبيا وبعض الدعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك)، وعلى رغم حماسة شبان وشابات قريبين إلى المعارضة التقليدية في المشاركة في بعض المظاهرات الشعبية والتواصل مع التنسيقيات المحلية، ظلت القوى السياسية المعارضة خارج الحراك الشعبي أو على هامشه. تفاقم الأمر أكثر بعدما فر كثير من نشطاء المعارضة إلى الدول المجاورة تحت ضغط القمع الشديد، وبعدما تشكلت أطر معارضة في الخارج وصولاً إلى تأسيس المجلس الوطني السوري في اسطنبول بقيادة برهان غليون، خريف العام 2011.

لدينا إذن حالة من الانفصال الكامل تقريباً بين معارضي الأمس ومعارضي اليوم، أو المعارضة التقليدية والمعارضة الجديدة التي دخلت عالم السياسة في السنوات الثلاث الأخيرة. فكما كانت المعارضة القديمة تشكو من فقدان أي حاضنة شعبية أو قاعدة اجتماعية أو حتى بيئة متعاطفة، يشكو نشطاء الثورة الجدد من انفصال المعارضة التقليدية عن مجريات الثورة واستغراقها في الصراعات السياسية بين قواها وشخصياتها المختلفة من جهة، وفي العلاقات مع الدول العربية والأجنبية من جهة ثانية. قد يكون مفهوماً انقطاع المعارضة التقليدية عن المجتمع، بسبب القمع المديد الذي تعرض له الطرفان بوسائل متفاوتة. لكن الثورة خلقت شروطاً جديدة كان من المفترض أن تردم الهوة التاريخية بين الطرفين. غير أن ذلك لم يحدث.

من المحتمل أن البنى الإيديولوجية لقوى المعارضة التقليدية، ومفهومها للتنظيم، شكلت عائقاً مهماً أمام تطور العلاقة بينها وبين الشعب أو نشطاء الثورة من المعارضة الجديدة. وهي إيديولوجيات خلاصية تبشيرية نخبوية تنتمي إلى الحداثة، بما في ذلك التيار الإسلامي الإخواني. تقوم ترسيمتها الأساسية على «نخبة واعية» تقود المجتمع «المتخلف» إلى الفردوس الأرضي المكتوب في الكتب. يشكل أدونيس الداعية إلى «تغيير الشعب» النموذج الأكثر فصاحة لهذه الترسيمة، في حين يشكل نظام بشار الكيماوي، تنفيذها العملي بأكثر الأشكال فظاظة.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى