الفقـر: الغـائـب الـذي حضـر
مالك ونوس
الفقر: غائب حاضر. في شحوب الوجوه حاضر، في العيون المطفأة، في الرؤوس المطأطئة حاضر. في البطون الخاوية وفي الثياب المنشورة على الحبل. في كيس الخبز وفي مائدة الطعام الحزينة. في أكواخ الصفيح، في الأسقف الدالفة وفي بوابة المنزل الرخوة. في الهواء المدخن وفي الماء المعكر. في «السرافيس» المحشوة، وفي مواقف الباصات المشمسة. في الذهاب إلى الوظيفة وفي العودة من الوظيفة. في أول الشهر آخر الراتب، وفي أول الشهر في آخره ولا راتب. على الطرق وبين يدي بائع الصحف الصغير. في الجامعة وفي المدينة الجامعية. في أول الموسم الزراعي في آخره، في أول البذار ولا بذار. في أرقام جرائدهم، في تكذيب أرقامهم في استطالة إنوفهم حاضر. ولو أن الفقر إنسان!
الفقر: حاضر غائب. عن الندوات وعن مسلسلات القنوات الفضائية العملاقة غائب. عن جدول أعمال الوزارات، عن إحصاءاتها. عن الهيئات التشريعية الدائمة الابتسام. عن الخطط الخمسية الطموحة. عن خطط التسلح، عن خطط النهوض الاقتصادي، عن خطط البناء الاجتماعي، عن خطط التنمية الشاملة وعن نمو الناتج المحلي. عن زيادة موازنة الدول، عن زيادة نفقات الدول، عن ازدياد الاستثمارات الأجنبية، عن ازدياد أعداد السياح وعن قدرة الفنادق الاستيعابية. عن خطط غزو الفضاء واستكشاف المحيطات. عن قمة العشرين وعن قمة الثماني، عن قمة دول الناتو، عن قمة الأرض وعن قمم الإنقاذ الإقتصادي. عن اجتماعات الجامعة العربية وعن قمة مجلس التعاون وعن المحكمة الدولية.
هو الظاهر في الشوارع الضيقة، المخفي عن الكــاميرا الخفية. هو المنتشر في الأزقة حيث لا ممثل بارعاً ولا مغنية (واوا) تتعثر به. هو حيث لا ياقات عالية ولا حذاء براق. هو حيث لا براد بالهواء ولا غسالة آلية. هو حيث لا سيارة «فول أوبشن» ولا سيارة هجين. هو حيث لا تلفـاز أربع طعش بوصة ولا تلفاز HID. ما همه بسرعة الإنترنيت أو انقطاع الإنترنيت. ما همه بصعوبة تحميل الملفات، وما همه بصعوبة تنزيلها. ما همه بكل الذين خارج نطاق التغطية وبكل الذين داخل نطاق التغطية، وما همه برنة بغنية وما همه بآخر العروض. هو من لا تبصره العيون، هو الذي لا تحكى عنه النوادر، هو ما لا تلتقط صوته ميكرفونات الفضائيات. وهو.. وهو.. ولو أن الفقر إنسان!
كيف غاب الفقر وزال؟ كيف ابتعد وانطوى؟ هل اختفى الفقر وأين شعراؤه؟ كيف تبخر فجأة بعد أن ظهر العالم الافتراضي عالم الإنترنيت وتكاثرت الفضائيات؟ من أخفاه؟ من غيبه؟ هل تآمر عليه وكلاء البنك الدولي كي لا يظهر أمام التلفاز أو كي لا يدلي بتصاريح للصحف الغربية أو المحلية؟ من أوجده؟ من روى جذوعه كي يكبر ويترعرع بيننا كالسنديان؟ من أعلاه فوق رؤوسنا؟ من وضعه في أطر صورنا؟ من أدخله بيوتنا لينام في فراشنا؟ من وزعه بين البشر؟ من سمى ضحاياه؟ ومن سمح للآباء بتوريثه للأبناء؟ ولو أن الفقر إنسان!
الفقر الذي غاب طويلاً، ها هو قد حضر. جاء بكل جلال ثيابه الرثة وعظام وجهه النافرة. فتح الباب ولم يقرعه أو ينتظر الإذن بالدخول إلى عالم الأباطرة. حل فوق رؤوسهم ورقابهم وفوق نياشينهم. كان محمد البوعزيزي منارة له كي يسلك الطريق. ومن نقطة البوعزيزي انطلق وحلق فوق العواصم والقصور العالية الأسوار.
سيسأل الطغاة المتساقطون أنفسهم يوماً (إن قدّر أن يكون لهم يومٌ): «من أين جاؤوا؟» لقد وضعنا في طريقهم كل الدشم والتحصينات. منعنا عنهم الطعام كي لا يقوموا إلينا. سيسأل حسني مبارك نفسه كيف انطلقت أصواتهم تصم إذني وأنا الذي اخترعت لهم كل تلك الجحافل من الفضائيات المنوعة كي تلهيهم بخصور المليحات عن نداء البطون فلا يَسمعون ولا يُسمعون. ضربت فوقهم عسساً يخاف منها حتى وزرائي المنصبون.
سيسأل معمر القذافي بعد أن سقط من عليائه: كيف استطاعوا الخروج من الشرنقة وكيف عرفوا أن في الخارج حياة غير الحياة التي وهــبتها لهم؟ كيف قرأوا كل تلك الكلمات من خارج كتابي الأخضر؟ وكيف زحفوا عكس زحفي الأخضر وأنا أبوهم.. وأنا نافخ البطون.. أنا أولهم.. وأنا آخرهم.. أنا الآخذ.. وأنا الواهب. أنا زعيم العالم.. أنا ملك الملوك.. أنا الخليفة.. أنا المنتصر.. أنا الفاتح.. أنا الثورة.. أنا البلاد.. أنا العلم.. أنا الدستور.. وأنا.. وأنا.. وأنا …
وسيسأل آخرون ويتعجبون. وسينامون في قبورهم بحسرة ويبكون. وسوف لن تتكحل عيونهم برؤية أولادهم وقد ورثوا العرش يلهون فيه ويمرحون. وسيخاف آخرون.. وسوف ينتظر آخرون.. وسوف لن يتعظ آخرون.
السفير