الفلسفة ونقد التطرُّف والانغلاق/ كمال عبد اللطيف
يُعَدُّ تخصيص يوم سنوي لاستحضار مآثر الفلسفة مناسبة لتذكيرنا في العالم العربي بالغياب المتواصل لمباهج الفلسفة ومسرّاتها في ماضينا وحاضرنا. ففي الخميس الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني كل سنة، تحلُّ هذه الذكرى التي سنَّتها “اليونسكو”، فنشعر بالفقدان والخصاص الذي نعاني منه في فكرنا وثقافتنا، نتيجة تهميش برامجنا في التربية والتعليم الفلسفةَ وقيمها وفتوحاتها المعرفية والاجتماعية، حيث تستمر ثقافتنا وتعليمنا وإعلامنا في تعميم كل ما يُسوِّغ أخلاق الطاعة والولاء، ويستهين بآدمية الإنسان ويقظته.
نتبيّن معالم الآثار المترتبة عن هذا الفقدان والتهميش في ما نلاحظه من الانتشار السريع والمرعب للقيم والمبادئ التي عملت الفلسفة، عبر تاريخها، على نقدها وتجاوزها، نقصد بذلك قيم التطرف في المجتمع والقطع في النظر.
تتيح لنا مناسبة اليوم العالمي للفلسفة الوقوف أمام الفراغ الموحش الذي ترتَّب عن الاقتلاع الذي تعرّض، وما زال يتعرّض له، درس الفلسفة في أغلب البلدان العربية، في المدرسة والجامعة والمجال العام، حيث يتم استبدال برامجها أو تقليصها بمبرراتٍ غير مقنعة، مبرّراتٍ يكتفي أصحابها باستعادة خطاباتٍ تُعْلِي من شأن المطلقات، مغفلين أن مجال الفلسفة يتجه إلى العناية بآليات التفكير الإنساني ومفاهيمه، قصد فحص المقدمات والأسس التي تسعف ببناء خطابات واضحة ومفيدة، في أثناء مواجهة وبحث أسئلة التاريخ والقيم والمستقبل، أسئلة الإنسان والمعرفة والتقدم.
للتوضيح، ليس الحديث، هنا، عن فلسفةٍ بعينها، بل نروم الإشارة إلى أهمية الفاعلية النظرية التي رسمها درس الفلسفة في التاريخ، حيث تتسع وتتنوع مجالات وحدود درسها، حدود المنطق الذي يحصرها في مجالٍ محدَّد بسقف وجدران، ذلك أن حاضر الفلسفة الكوني منحها، وما فتئ يمنحها، الطابع الذي أصبحت عليه في نهاية القرن العشرين، حيث استقرّت في حنايا المعارف المختلفة، وتسرّبت آليات عملها إلى معارف وخطابات عديدة، لتؤسس لعملية إعادة انتشار تُوَاصِلُ من خلالها محايتثها مختلف خطابات المعرفة وفنونها، حيث تنتعش لغة الفلسفة ومفاهيمها في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما تبتكر لنفسها مفرداتٍ ورموزاً في الفنون والآداب وفي مجال القيم، وكذا في مباحث التقنية ومجتمعات المعرفة، كما تحضر في القانون والسياسة. هذا من دون الحديث عن حضورها المؤكد في الرواية والشعر، وباقي النصوص المفتوحة، سواء كانت مكتوبة بالكلمات أو بالأشكال والأصوات والصُّور.
وإذا كانت أوضاع الثقافة العربية، اليوم، تشير إلى مظاهر انتعاش خطابات التمذهب العرقي
“تتطلب مواجهة سقف العقائد المهيمن في حاضرنا مواصلة الجهود والمساعي الرامية إلى استئناف القول الفلسفي، وتوطينه في ثقافتنا” والعقائدي الذي حَوَّل مجتمعاتنا إلى بؤر للاقتتال، وأدخل شبابنا في متاهاتٍ مخيفة، فإن الانتصار لقيم الفلسفة في هذا الظرف بالذات، يُمكِّننا من التمرّس بفضائل الانفتاح والحوار وأدوار العقل في التاريخ.
تتطلب مواجهة سقف العقائد المهيمن في حاضرنا مواصلة الجهود والمساعي الرامية إلى استئناف القول الفلسفي، وتوطينه في ثقافتنا، فلا يعقل أن تظل عقولنا متشبثة بآلياتٍ في الفكر، لم تعد ملائمة لمتطلبات الأزمنة الجديدة التي نُعاصرها، من دون أن نتمكّن من الانخراط الفعَّال في بناء أدواتها في الفهم والعمل وصناعة أحداثها في التاريخ.
تُعَدُّ حاجة الفكر العربي إلى الفلسفة مسألة استراتيجية، لا ينبغي تقديم أي تنازلاتٍ في موضوعها، فلم يعد هناك أحد يجادل، اليوم، في ضرورة الاستفادة من الفكريْن، النقدي والتاريخي، فكر النسبية في المعرفة والحداثة ومواثيق العمل الجماعي الإرادية والواعية في السياسة والأخلاق، قصد مواجهة مختلف أصناف وصور الفكر الواحد، والرأي الواحد، والعقل الكلي، والنص المطلق والمغلق.
ولعل اكتساب أوليات التفكير الفلسفي المشار إليها آنفاً، وباختزالٍ كثير، تُعوِّد الناشئة من الأجيال الجديدة في مجتمعاتنا على إدراك أهمية التعدد والاختلاف والتسامح، ودور التاريخ في تنويع مضمون المبادئ والقيم والعقائد وتطويره، حيث تصبح دروس الفلسفة مناسبةً لتعويد الذهنيات على مواجهة التفكير المغلق ومصارعته، من أجل فهم القضايا التاريخية والنظرية في تشابكها وترابطها وتعقدها، وبكثير من الاحتراز واليقظة، وهما قاعدة القواعد في النظر الفلسفي.
نذهب، في هذا المجال، بالذات إلى أبعد من ذلك، حيث نرى أن دروس الفلسفة الحديثة والمعاصرة تُمَكِّن، في حال تعميم الوعي بمبادئها ومفاهيمها الأساس، من دعم الاختيارات السياسية الديمقراطية في فضائنا السياسي، فقد لعب سلاح العقل النقدي في الفلسفة دوراً بارزاً في الدفاع عن السياسة، باعتبارها مجالاً مستقلاً، لبناء التوافقات والمواثيق التاريخية التي تبلورها الإرادات البشرية فيما بينها داخل المجتمع، خدمة لمصالح وأهداف معلنة ومحدَّدة. ولم يعد هناك أحد يجادل في الدور التنويري والنقدي للخطاب الفلسفي في التاريخ، والذين شكّكوا طويلاً في الوظيفة المركزية للفلسفة في تاريخ الفكر وتاريخ المجتمع أصبحوا يعرفون، اليوم، استناداً إلى تجارب التاريخ ومعطياته، الوظائف الكبرى التي يلعبها تعميم الوعي الفلسفي في تطوّر الفكر، وتحَوُّل عمليات التفكير داخل المجتمع.
العربي الجديد