الفنان السوري مضرَّجا بندمه/ أحمد عمر
ندم ندامة أكبر وأمرَّ من ندامة الكسعي، التي ضرب العرب بها المثل. قبل أن نروي حكايته؛ هناك رواية إسرائيليات منكرة، تزعم أنّ النبي سليمان عليه السّلام كان عنده خاتم هو سرّ ملكه، وقد حدث يوماً أن أراد سليمان أن يستحم، فأعطى زوجته الجرادة خاتمه، فجاء الشّيطان في صورة النبي سليمان ليطلب منها أن تردّ عليه الخاتم، فأعطته إياه، فخرج سليمان ليأخذ الخاتم من زوجته، فقالت له قد أعطيته سليمان، وإنّك لست زوجي، فحصلت لأجل ذلك فتنةٌ كبيرة، واستولى الشّيطان على عرش سليمان، وأصبح يدير شؤون النّاس، حتّى ألقى الله في نفوس النّاس حقيقة الشّيطان، فثار النّاس عليه وقام بإلقاء الخاتم في البحر لتلتقطه إحدى الإسماك، وقد حدث يوماً أن كان سيّدنا سليمان يعمل على شاطئ البحر حيث كان يحمل حاجيّات النّاس بالأجر، فأتاه يوماً رجل ابتاع سمكاً ويطلب منه أن يحمله إلى بيته مقابل الحصول على سمكة واحدة من هذا السّمك، وعندما ظفر سيّدنا سليمان بقوت يومه وهمّ بأن يأكل السّمكة وجد خاتمه صدفة في جوفها، ففرح أشدّ الفرح وعلم أنّ ذلك من فتنة الله تعالى له، فاستغفر ربّه ثمّ أناب، وقد استردّ سليمان عليه السّلام بعد ذلك ملكه وعرشه كما كان…
الفنان السوري هو خير الدين عبيد، من إدلب الخضراء، نزح إلى تركيا، وعمل فيها مدرّساً للفنون فترة أقل من الفترة التي عمل فيها في سوريا بكثير، ثم عبر البحر إلى ألمانيا، وأقام فيها فترة يحادث الحجارة والخشب، وينتزع منها الأسرار بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم لمّ شمل العائلة، وتعرف إلى جيران ألمان في قريته الألمانية على الحدود الهولندية، كلهم كهول، فرحبوا به، ونشأت بينه وبينهم صداقة صامتة. وخير الدين لا يحادثهم سوى بالإشارة، وبلغة فرس عنترة: العبرة والتحمحم. أعطاه جاره مفتاح منشرته، ليرسم وينحت ويحول المشغل إلى مفرزة ينتزع من حجارتها التي أوهنتْ روح الأمة وأضعفت شعورها القومي الأسرارَ. خير الدين رسام ونحات ينحت البازلت والخشب، وخطاط يخط النسخ والديواني والرقعة والخط الحر، وهو يستنطق الرخام أيضاً، ويجعله يعترف بعد التعذيب بالإزميل والمطرقة بالخيانة العظمى، خير الدين واحد من الذين صاحبتهم بسرعة، فالأرواح جنود مجندة ما تعرف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
صار صديق الروح بالروح والعين بالعين والبادئ أكرم. عمل في سوريا محرراً في مجلة “أسامة” للأطفال، وفي تركيا أسس وأصدر مجلة “زورق” مع صديقة الكفرنبلاوي محمد السلوم. وأصدر عشرة كتب للأطفال، منها خمس مجموعات قصصية بديعة حقا، تستحق أن تدرّس في المدارس هي: “حديقة الألحان – جبل السّكّر – المهرّج – قصر الورد – الرّيش الطّائر”، وفي المسرح له: رسالة من المرّيخ التي حازت المركز الأول في جائزة الشّارقة (1999). وأحلام نجمة، التي نالت المركز الثاني في جائزة أنجال زايد (2003)، وكتاب بحثي هو “حكايات شعبيّة”. وفي الشعر أصدر: “طفلة وسنونوة – و مجموعة قصبة السّكّر”. يقول في إحدى القصائد:
متى تفيق السوسنة؟
أعندما يبلل الصباح وجهها بقطرة ملونة؟
أم عندما….
متى تفوح السوسنة؟
أعندما تمر من جوارها نسائم مطمئنة؟
أم حينما….
متى تميل السوسنة؟
أعندما تحط فوق كتفها فراشة مزينة؟
أم كلما….
متى تنام السوسنة؟
أعندما توشوش النجمات أذنها بضحكة ودندنة؟
لربما…
إلى متى يا سوسنة.. أبقى بلا جواب
إلى متى يا سوسنة.
أقام معارض عديدة، وهو يقسم برب العزة أنّ سراقب وبنش وأريحا في إدلب تقدّر الفن أكثر من شعب فنسنت فان غوخ. وكانت خيبة أمله كبيرة في ألمانيا، التي ظنَّ أنها محجّة الفنانين. جلس في المدرسة شهوراً طويلة يضرب فيها أخماس العجمة بأسداس الخرس، لم يتعلم خلالها حرفاً واحداً سوى التحية، فاستيأس، وقصد معلمته الألمانية، معرفاً بنفسه بعدما أحضر منحوتات تترجم له ما عجز عن المحاورة، فذهلت المدرّسة الستينية بمنحوتاته ولوحاته، وأشفقت على تلميذها، وقررت أن تتعلم العربية فالتحقت بمدرسة، حتى تعلمه الألمانية!
القصة ليست هنا، وهي واقعة مؤثرة، وليست في رسالة أرسلها إلى انجيلا ميركل يوحي لها بأن ضيفاً كريماً حلَّ على بلادها من حضارة إيبلا، يريد زاوية أو صالة أو مرسماً يعمل فيه بهدوء، ويرسم لألمانيا، ولسوريا، ولنفسه، وربما قسا عليها في الرسالة عندما قال: لم أرَ هنا سوى الصمت المؤطر.
ردّت عليه بعد ستة شهور، تبلُّغه التحية، وأن غايته موكلة إلى بلديات محل إقامته. فهمَ من الرسالة أن يدها قصيرة، وليس لها من الطاعة سوى ما لرئيس بلدية في سوريا الأسد.
باع لوحة واحدة لأحد الجيران، لكنه يشكو من الفن الغربي: اللوحات باردة، بلا حياة، شمعية. علم بمعرض للفن التشكيلي والحلي التقليدية، تقيمه هولندا سنوياً في الهواء الطلق لمدة ثلاثة أيام، في بلدة أوتمارسوم، على الحدود الألمانية، فيها خمس صالات فنية فخمة.
أرسل أبو الخيرات صوراً للوحاته إلى إدارة المعرض، فوافقت على مشاركته، فاستأجر بمساعدة صديقه الألماني هانز، مساحة ثلاثة أمتار مربعة، برسم قدره 165 يورو، وحمل صديقه النجار الألماني هانز يورغن لوحاته في سيارته وقصد البلدة، كانت خيبته كبيرة عندما رأى المحل الذي استأجره، وهي منضدة كنضد سوق الحرامية. لو علم لاستأجر خيمة أغلى، فوجئ “بالبسطة” فقرر أن يعود لولا صديقه هانز الذي استبقاه. اصطحب أبو الخير ابنه الصبي الذي تعلم الألمانية ليترجم له…
في اليوم التالي، أخذ معه عكاكيز من الخشب حتى يسند لوحاته الجريحة، وأعد لها متكأ على النضد البالي: طريقة العرض سيئة ومهينة، الزائرون كئيبون، شاحبون، لا يتكلمون كأنهم خرس، حتى كلابهم لا تنبح. قضى يومين مثل فراق الوالدين، لا يفعل شيئاً سوى التدخين، دخَّن عن شهر في يومين، أحياناً بسيجارة، وأحيانا من غير سيجاره. لم يلحظ أحد الدخان الطالع من متن أبي الخير. بيعت لوحة واحدة في المعرض الكبير، لوحة فقط لفنان اميركي، وقطعة تستخدم للزينة، أما لوحاته الست فقط صفعتها الريح وجندلت أحداهن وكسرتها تكسيراً!
قرر أن يرسل رسالة سياسية للزوار. فكر في إحضار ورق صبار، ليعرض لوحة كاريكاتيرية لبشار الأسد، فهو يرسم الكاريكاتير أحيانا، لوحة واحدة فقط لا غير، محاطة بورق الصبار الشائك، لكنه لم يجد ورق صبار في البلدة كلها، الصبار ينمو في الصحارى العربية. قرر سند صورة بطل العلمانية العربية والمقاومة والممانعة، بعصا، وعلّق على اللوحة المسنودة، أكياس شاي منقوعة مستهلكة، وألصق بها أعقاب سجائر، ووضع كوباً من الشاي مشروباً إلى النصف، وجعله منفضة أعقاب السجائر. فوجئ بصحافي يقف أمامه، فهو يبحث عن فنان سوري، لاستمزاج رأيه في المعرض، فأجلسه أبو الخير، وبدأ هجاء قاسياً للمعرض. أخبره أنه لم يأكل مقلباً مثل هذا في حياته، على كثرة الفنانين القادمين إليها من العالم، لوحته أهينت كما لم تهن من قبل، وللوحات مثل المآذن.. أرواح. توقف الصحافي عن الكتابة من قسوة وصف أبي الخير للمعرض.
ما جعل أبو الخير يعضُّ أصابعه، ندماً، على فوات الفكرة التي خطرت له متأخرة، وهو يغادر المعرض، وإذا فات الفوت، ما ينفع الصوت: وهي أن يستكتب ابنه الذي رافقه في الرحلة، على كرتونة كبيرة، يرد فيها الإهانة التي نالها في المعرض، هذه الرسالة: “أنا الفنان التشكيلي والكاتب والشاعر فلان، لأنني أحب لوحتي وأحترمها، أعتذر عن العرض كالبقية، فوق هذه الطاولة التي لا تصلح إلا لعرض الطماطم”.
عاد خير الدين بلوحاته منكسراً إلى الديار في ألمانيا، إلى مثابته وقد صارت وطناً. وعاد إلى التدخين وهو ينكس رأسه خجلاً من أمس شخصيات لوحاته المنصرم. واعتذر لها عن السبي والاغتصاب الذي تعرضت له، وبكاها. قلت له متصلاً: احمد ربك أنك عدت صحيحاً معافى، ولم تقطع أذنك مثل الفنان الهولندي فنسنت فان غوخ.
اتصلت به امس، أطمئن عليه، فلم أجده في البيت، فقال لي ابنه:
– يذهب كل يوم إلى البحيرة القريبة، ويصيد السمك.
لعله يأمل في أن يعثر على خاتم ملكه الذي فقده في هولندا في بطن سمكة؟
المدن