الفنان وجسده في حومة الصراع

نمر سلمون

هل رأيتم امرأة تراقص دبّاً؟ هذه كانت حالي مع آنستي الرّوسيّة خلال دراستي في المعهد العالي للفنون المسرحيّة بدمشق. لم تنفع السّنوات الأربع بتطويع جسدي وعقلي اليابسين لأتعلّم رقصتي التّانغو والباليه، كانت شريكاتي في الرّقص يعانين قدميّ اللّتين كانتا تدوسان أقدامهنّ بعيداً عن أيّ إيقاع موسيقيّ كان يصدح هناك، في زاوية قاعة اللّيونة والحركة، في دمّر، “قبل أن تدمّر البلد”، كنّا ندمّر التّوازن ونقع. لم تسلم منّي حتّى معلّمة الرّقص نفسها، وهي الّتي كانت تعتزّ برشاقتها، ومهارتها على كبر سنّها، كنت أفقدها توازنها بدعسة واحدة على قدمها، فتتبعثر حركاتها هنا وهناك. فأعزو سبب دبدبتي الرّقصيّة إلى أنّ أصول مدرّسينا دبب روسيّة. لكنّ مردّ ذلك هو أجسادنا اليابسة في بلد لا يعير الرّياضة اهتماماً إلاّ بالكلام الخطابيّ المقعّر، صرعوا أمخاخنا بجملة قالها صاحب سوريّة الخالد الّذي لم يعد له وجود “إنّي أرى في الرّياضة حياة”، بينما لم نكن نرى نحن في الحياة رياضة، ثمّ جاء ابنه، وصار يقتل الجميع، حتّى الرّياضيّين. في المدارس الابتدائيّة السّوريّة يحوّلون حصّة الرّياضة إلى حفلة تنظيف الباحة، وفي أفضل الأحوال يرمي المدرّس بالكرة إلى تلاميذه، يأمرهم بأن يشكّلوا فريقين ليلعبا مباراة بكرة القدم. في تلك المباريات، وقبلها في الحارة، اكتشفت موهبتي كحارس مرمى، وقلب هجوم. كنت ألعب في المركز الّذي أريده في حارتنا، كيف لا وقد كنت صاحب الكرة. أمّا في المدرسة فكان القمع والواسطة شغّالين، لم يكونوا يتركونني ألعب إلاّ إذا رضيت أن أكون حارس مرمى، المركز الّذي لا يريده أحد. كلّهم كانوا مهاجمين، لا أحد كان يريد الدّفاع “عن الوطن” حتّى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. موهبتي في حراسة المرمى أهّلتني لأصبح فنّاناً، وهي المصيبة الّتي نزلت علينا بهذا البلد، أن تكون موهوباً بشيء ثمّ تصبح شيئاً آخر. وهناك، في جنبات المعهد المسرحي اكتشفت العلاقة الوثيقة ما بين الرّياضة والفنّ، فقدماي المقوّستان من كثرة الرّكض وراء الكرة كمهاجم منعتاني من أن أكون راقصاً رشيقاً، ولكنّ قوّتي كحارس مرمى حوّلتني إلى ما يشبه “جحش الكوي” في المعهد، فقد كلّفتني مدرّسة اللّياقة أن أكون عصب التّمارين الّتي كانت تحتاج إلى قوّة؛ رفع الزّملاء، دفعهم، قفزهم من فوقي، إلخ… يعني بمعنى أكثر وضوحاً تحوّلت إلى “عتّال” للزّملاء “المهرهرين”. وحين كان ينفّذ الجميع التّمارين المحدّدة ويجيء دوري لتطبيقها، لم يكن يرضى أحد أن يأخذ مكاني كحمّال للأسيّة، وعندما كانت المعلّمة تجبر أحدهم على فعل ذلك كان يقع قبل أن ألمسه.

المهمّ بعد صراع طويل مع اللّياقة والرّقص واللّيونة تخرّجنا من المعهد فنّانين ننظّر إلى الآخرين، بعنجهيّة خرّيج المعهد، ضرورة أن يكون جسد الفّنان عجينة مطواعة. كان جسدي المتيبّس يضحك منّي عندما يسمع ذلك، وأكثر من مرّة كاد يفضحني.

“كش برّا وبعيد”:

في أوائل التّسعينيات، وفي زيارتي الأولى لنقابة الفنّانين في دمشق، بعد أن أصبحت عضواً فيها، أبهرني وجود صالة خاصّة للشّطرنج، هناك كان يجتمع “رياضيّو النّقابة” باعتبارها رياضة! كانوا يركضون، بكروشهم الكبيرة، خلف الفيلة والجنود والأحصنة ويدفعون بالقلعة، ويتآمرون مع الوزير في سبيل “كشّ” الملك. هؤلاء الفنّانون اليوم ما زالوا يكشّون الملك بكلّ قوّتهم، ويعجزون عن لفظ “كش رئيس”.

كرة قدم كرتونيّة

بعض أعضاء النّقابة من سينمائيّين مشهورين، مخرجين، ممثّلين، مصوّرين، وسواهم كانوا يحبّون كرة القدم، فشكّلوا فريقاً آنئذٍ، ثمّ اتّفقوا مع لاعب من نادي الوحدة أصبح فيما بعد مدرّباً لمنتخب سوريّة، لكي يدرّبهم. وفي أحد الأيّام دُعيت للانضمام للفريق. وقتها كان رسم الاشتراك الشّهري خمسمئة ليرة سوريّة، ولم يكن معي منها سوى ما يسدّ حاجاتي اليوميّة البسيطة، رغم أنّي كنت عائداً وقتها من فرنسا، بعد دراستي فيها وحصولي على شهادة عليا من السّوربون “لا تقرفوا”، وشعري طويل، و”شغلة”، “بس” لم يكن معي خمسمئة ليرة، والسّبب بسيط، لم يشغّلني أحد معه، فالمسرح القومي لم يكن بحاجة لخبرات شعري الطّويل، والتّلفزيون كان مكتفياً بشلله، والسّينما تبحث عن وجوه جديدة، والإذاعة تريد قواماً رشيقاً ووجهاً حسناً بغضّ النّظر عن الصّوت والإلقاء! فاعتذرت بحجّة أن لا وقت لديّ لألعب معهم. أحدهم “رحمه اللّه” أحسّ بضائقتي، فهمس لي بأن ألعب معهم شهراً مجّاناً، وفي الشّهر التّالي أدفع. لم ترضَ كرامتي الّتي كانت في أوجها أن يشفق عليّ أحد، فرفضت عرضه، وابتدعت حججاً واهية لأتهرّب من اللّعب، أو بالأحرى من مطبّ عدم قدرتي على الدّفع، فاللّعب كان روح قلبي. بعد يومين، أتاني ذلك الشّخص وسألني “هل تقبل العمل في الدّوبلاج؟”، لم أجد سبباً لكي أرفض عرضه، رغم أنّني كنت أمنّي النّفس بالعمل في المسرح. أقنعت نفسي بأنّها خبرة جديدة، وفي الوقت نفسه تغنيني مذلّة التّهرّب من كلّ نشاط يحتاج إلى دفع اشتراك. وهكذا انتصر الدّوبلاج على أمانيّ، ودراساتي في فرنسا، فبدل أن أخلق مسرحاً جديداً كنت أحلم به، تحوّلت إلى مسرحيّ كرتونيّ في البداية، وبذلك استطعت أن أنضمّ إلى الفريق. الطّامّة الكبرى هي أنّني، ورغم إجادتي اللّعب، باعتراف المدرّب والكثير من الفنّانين، إلاّ أنّني كنت الحلقة الأضعف، كانوا دائماً يبدّلونني ليلعب مكاني أيّ فنّان مشهور، حتّى لو لم يكن من الفريق. وعندما تركنا المدرّب وتابعنا وحدنا، كان هناك فنّان يلعب في مركزيّ، قلب هجوم وحارس مرمى، فكان إذا رآني في الحراسة بدّلني ليحرس مكاني، وإذا كنت أهاجم هاجمني حتّى أخرج من الملعب ويبقى هو. هذا الفنّان كان سميناً ولعبه يشبه تمثيله. وفنّان آخر، كان مهاجماً مرموقاً، يقف أمام مرمى الخصم دون حراك، يسبّ ويشتم كلّ من لا يمرّر له، وحين كنّا نفعل كان “يشوط” الكرة، فإن لم تدخل المرمى سبّنا من جديد على سوء لعبنا وعدم دقّتنا في التّصويب.

ركض، ركض، ركض…

أغلب الفنّانين الّذين كانوا يلعبون معنا لم يكونوا يركضون داخل الملعب لفقدانهم اللّياقة، ولكنّهم كانوا يجرون كالغزلان من مسلسل إلى آخر، فالرّكض خلف لقمة العيش الفنّيّة لا يحتاج إلى لياقة، بل إلى لباقة وأناقة، و”حداقة”. وأمّا الآخرون، مثلي و”جرّ”، فما زالوا في حالة استرخاء فُرضت عليهم لعدم تمتّعهم بموهبة القفز فوق الأخلاق. والقفز رياضة كما تعلمون. على فكرة، فإنّ تمرين الاسترخاء كان المفضّل لدينا أيّام الدّراسة، التّمرين الوحيد الّذي كان يتيح لنا أن ننام أمام أعين أستاذنا بينما يوجّهنا بفرضيّاته الإبداعيّة الهامسة، حين كان ينتهي التّمرين، كان يسألنا ماذا تخيّلنا؟ وكنّا نكذب عليه بقصص ما أنزل اللّه بها من سلطان، فيصدّقنا رغم علمه بأنّنا كنّا نائمين. في الحقيقة لم نكن قادرين على الاسترخاء ولا حتّى نياماً، وهي مشكلة العرب، فهم يتنقّلون دائماً من حرب إلى حرب ومن قضيّة إلى أخرى.

مقدّمة:

ويسألونك عن علاقة الفنّ بالرّياضة في زمن تهدّمت فيه كلّ العلاقات، فمن المفروض أن يسيطر الممثّل على جسده، أن يعرفه جيّداً لكي يسخّره لأيّ دور يُعرض عليه. كلام مثاليّ، لممثّل مثاليّ في مناخ إبداعيّ مثاليّ. ولكن هل الممثّل العربيّ وجسده على علاقة طيّبة؟ هل هما متصالحان؟ أنا مثلاً، في صراع دائم مع جسدي، أطلب منه أن يقوم بحركات يعجز عنها، فأضطرّ في النّهاية إلى أن أستثمر ما يمكن أن يفعله جسدي، وألعب عليه، فأبدو للنّاس رشيقاً، غير أنّني لو اختبرت في أدوار تفوق محدوديّة جسدي لسقطت سقوطاً “مدوّياً”. لا أريد الحديث عن مشاهيرنا الّذين أصبحوا نجوماً، وهم لا يعرفون من الرّياضة سوى تشجيع رّيال مدريد وبرشلونة، يتعبون بمجرّد رؤيتهم اللاّعبين يركضون، ومع ذلك تراهم يعملون أكثر من أيّ موهوب ورشيق. في الفنّ اليوم، في المسرح خصوصاً، تفقد مقولة “العقل السّليم في الجسم السّليم” مفعولها ومصداقيّتها، فالعقل السّليم حاليّاً في الجسم الّذي لا يتوقّف عن العمل، لأنّ عقله “سيطقّ” وهو يفكّر “وغداً ماذا سأفعل؟”. ليس لدى ممثّل اليوم القدرة على ممارسة الرّياضة الجسديّة ولا الرّوحيّة، وكلاهما ضروريّ لعمله. يكفي أن ندخل إلى بروفة مسرحيّة لنكتشف أنّ إحماء الممثّلين أشبه بإحماء كرة القدم مع قليل من الأصوات الّتي تئنّ لتكسر رتابة الأجواء.

الرّياضة بأنواعها، الذّهنيّة والجسديّة والرّوحيّة، من البديهيّ، أن تخدم الفنّان، ولكن قبل ذلك على الفنّان أن يؤمن بها. كم كنت أحلم بأن أكون ذلك المسرحيّ الّذي يتمتّع بلياقة جسديّة تدعمها رشاقة فكريّة تتوّجمها روح رياضيّة. ولكن سبق السّيف العذل. فالفنّانون أقلّ النّاس روحاً رياضيّة.

عود على نهاية

أكثر ما أثار انتباهي طوال سنوات الدّراسة جملة كان يكرّرها على مسامعنا كلّ أساتذة اللّياقة الرّوس”الرّياضة تفيد في فكفكة عضلات الممثّل لإعادة تركيبها ليكون جاهزاً دائماً في خدمة الدّور الّذي يوكل إليه”. اليوم يصدّر إلينا الرّوس عضلاتهم في زوارق حربيّة ليستعرضوها علينا.

السفير