الفنّ في الشارع
روجيه عوطة
كاريكاتور لعلي فرزات. تصير الأغنية أكثر من أغنية، والرسم الكاريكاتوري أكثر من رسم. فالفن في الشارع يكتسب معاني ودلالات تصبح ملك مستخدميه المنتفضين على الطغيان. على هامش اغتيال المغني ابرهيم قاشوش والاعتداء على الرسّام علي فرزات، يقول النص المنشور أدناه إن الفن في الشارع… يُسقط النظام.
إلى صوت إبرهيم قاشوش وأصابع علي فرزات
ليسوا ظلالاً ترتبك وتسمو بالخسارة. الظلال عاجزة، بعكسهم، عن إثبات الحياة والاحتفال بها على الجدران، على الوجوه، بين الأكتاف، بين الأيدي، التي ترتفع إلى الأعلى وتصفق لذروة الإرادة السائرة إلى إنكار العدم المزدوج والنافي خروج الأجساد من الأزقة والحارات والبيوت إلى رحاب الشوارع التي تشتاق دائماً إلى المنسي والممنوع، ولم تسنح لها الفرصة، فرصة النشوة التاريخية، لتستقبلهم كناس جديرين بصنع الخلاص من الرعب عبر ترجمة الألم فناً وتحويل المعاناة سخرية من سادته، الذين يمقتون مرح الجسد وذاته التي تبدع وتخلق، وتكشف قبحهم وبشاعتهم المتخفية وراء الأقنعة اللزجة.
صرنا نعرف أسماءهم ونحفظها في ذاكرة فوهة الأسلحة الموجهة إلى قلوبهم التي تنبض بـ”حقيقة الحقيقة”. تعود نبضات الفن إلى عروق الشارع وأوردته، وإلى حياة الفنانين القوية، حتى مع “موتهم الذي يولّد الحياة”، كما تقول إحدى لافتات الشارع في سوريا. قُتل إبرهيم قاشوش واقتُلعت حنجرته قبل أن ترمى في نهر العاصي، لأنه غنّى ضد النظام الديكتاتوري الدموي في بلاده. من يومها، ازدادت الحناجر “القاشوشية” ورددت كلماته في كل عواصم العالم التي شهدت تظاهرات مؤيدة للشعب السوري ضد نظام الأسد. صباح يوم الخميس، قبل اسبوعين، اعتدى “مجهولون” أمنيون على رسّام الكاريكاتور الجريء علي فرزات، وأبرحوه ضرباً بعد تكسير يديه وأصابعه وإطفاء السجائر فيها، بهدف منعه عن الاستمرار برسمه الناقد للقادة الديكتاتوريين والداعم لحراك الشعب الثوري، الذي يخلق أسطورته وسط خرافات السلطة وهذياناتها الاجتماعية والسياسية والثقافية. بعد ساعات قليلة، انتشر خبر الاعتداء عليه وتناقلته العديد من الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، وانتشرت لوحاته على مواقع الـ”فايسبوك” والـ”يوتيوب”، ورسوم تصوّره وهو يستعمل قدمه ليكمل عمله. عندما تعافى، رسم علي فرزات نفسه ممدداً على السرير، مكتوف اليدين، وإصبع يده موجهة ضد المعتدين عليه ونظامهم الشرس. أما لائحة الفن المعتقل في الزنزانات فتطول وتعج بأسماء الفنانين والممثلين والتشكيليين.
موت الفن
يتصوّر النظام أن الفن قد اكتمل معناه حين حدده هو كأداة جمالية لتمثيل سطح الحياة ونسخ أوهامها في كل إنتاج فني يحرص على ظهوره كنشاط فردي وخاص بالفنان الذي يحافظ على مسافة تفصل بين ذاته، كمفهوم متعال، وإنتاجه المشرع على حقيقة واحدة. يتصور أن على الفن التشبث بمثاليته وتساميه، والارتقاء إلى عالم ما فوقي أو ما ورائي، بعيد كل البعد عن تراكم الصرخات المكتومة في باطن الوعي المكروه لأنه يتجاوز الحقيقة الصلبة وخلفيتها الميتافيزيقية، ويمد الفنان بأوهام وأكاذيب صحيحة، فيثبت مضامينها من منظاره الباطني للحياة. يتقيد العمل الفني بمعنى خطي وبتأويل ينتهي عند الصدمة الأولى، التي تحصل بينه وبين الحواس الخمس، فترتبط بحواس أقوى منها في ترميز الموضوع الفني بشكل لا يؤذيها ويبقي قراءة الموضوع ضمن حدود “سيستام” اللغة الفنية المقفل. فتمنع علاماته من التفاعل، وتفكيك شيفرات بعضها البعض، كي تتناسق وتتفلت من وهمها. هنا يلعب الفنان دور المغامر في قلب الوهم خيالاً، والصمت صوتاً، والكذبة حقيقة لها دلالة متحررة من مشارب الفن التقليدية الرامية إلى إلزامنا أخلاقية الانتظار في الكهف والتعلق بظلال تظهر على جدار واحد وببعد وحيد، بينما يقف في الخارج، أناس يلعبون بالخوف والرعب، غير مهتمين بـ”الطمأنينة” لأنهم يعلمون مدى زيفها جسدياً ووجودياً. يعاقب سادة الظلال والصور، الديكتاتوريين، هؤلاء الذين عادوا أجساداً تنتشي رغماً عن النظام. العقاب يرافقه دم مسفوح لا يُرى على جدار الكهف إلا إذا أدار له الفنان ظهره، وبالغ كاريكاتورياً في تصوير تقهقر الحياة، وأعلن صراحةً موت الفن الهارب من الموت، وفوران الذعر في باطنه الممنوع. بموجب إعلانه موت الفن، يقترب الفنان من مأساة الشوارع المنتفضة على بورتريهات الخلود وتماثيل عمالقة “البعث” الجمالي، المراقبة كل جسد يمر بقربها ويرفع رأسه لها ليطمئن الى أنه لا يزال على قيد الحياة، على قيد المرض الفني الذي تعاني منه حواسه الملغاة والممسوخة إلى قنوات تندفع في اتجاه درامي واحد. يضعنا موت الفن المرضي وولادة آخر مغامر، وجهاً لوجه أمام العنف الداخلي، الذي يجردنا من زخمنا الحياتي، والعنف الخارجي، الذي يمارسه النظام كاستراتيجيا للتخلص من الأجساد التي تكشف وهم الحقيقة في كهف الظلال وحقيقة الوهم المختبئ تحت وعيها الهلامي.
انتشال الصرخة من الهاوية
فن الشارع ينتجه فنان لا يتملّكه نسيان وجوده ووجود ناس هم فنانون في التعبير عما يعتريهم من خوف وقلق حيال ديمومة النظام وقمعه، وفي الوقت نفسه يخلقون جواً فنياً جديداً من هذين القلق والخوف، تتخلله أغان ورسوم وشعارات، إما ساخرة وإما تراجيدية وإما مرعبة، وكل أنواعها تصب في نقد الديكتاتور وكلامه وارتكاباته الأمنية والعسكرية.
أغاني إبراهيم قاشوش قلبت الخطاب الديكتاتوري وسخرت منه، مركّزةً على وعود النظام بالإصلاحات، وشارحةً مطالب الشارع عبر توصيف وضع ناسه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. شددت كلمات الأغاني على تناقضات خطاب النظام الإعلامي، وفي نهاية كل أغنية إصرار على عدم التراجع عن الانتفاضة حتى الوصول بقوة الحياة إلى حرية سوريا. بالنسبة الى الشعارات واللافتات، عادةً تُخلَق في لحظتها، لذا ليس في إمكاننا أن نحصي الشعارات أو نحدد عدد اللافتات المحمولة في كل تظاهرة. معظمها ذات مضمون جدلي، يجمع بين الحياة والموت، الجرح والغضب، الحرب والسلم، مع التعبير عن ظروف الشارع، وعن آراء مختلفة عن تلك التي يسوّقها الإعلام الرسمي في قضايا عدة، باستعارات فنية، وجمل، مضحكة، مبكية. على سبيل المثال: “اشتريتم الثياب لكم ولأطفالكم واشترينا الأكفان لنا ولأطفالنا”، “المصاب السوري واحد وسيبقى الشعب صامد”، “السوري يطالب بحق العودة إلى سوريا”، “أبطال على السوريين… جبناء مع إسرائيل”، “حل مشكلة نقص المياه بأنهر من دماء الشهداء”، “خذوا حصتكم من دمنا وارحلوا”، “إذا كان ثمن الحرية الكفن فإنه معي”، “رصاصكم لم يقتل سوى الخوف فينا”، “العفو الكاذب من الرئيس الساقط”، “النظام يللي بيجه منه شبيح سقطه واستريح”، “وحدها الديموقراطية تخيف إسرائيل”، “الآن عرفنا معاناة الشعب اللبناني من طغيان نظامنا”، “عاجل: يلزمنا كومبارس لتصوير مجموعة إرهابية”، “جراثيم سوريا تهنئ جرذان ليبيا بسقوط الطاغية”. عالجت الرسوم موضوعات عدة، الأمن، المخابرات، العنف، المثقفين- الأبواق، الحرية، التضليل الإعلامي وغيرها. اتبعت تضخيم شخصيات النظام أمام الشهداء وتقزيمها أمام الشعب، وأظهرت بشاعتها وقبحها، لتنحاز الى الضعفاء بدل الأقوياء، الى السلم بدل الحرب، فتحدّى القلم الهراوات، والصدر العاري الرصاص، ومن الدم نبتت وردة الحرية. أحد الرسوم يقارن بين وضع الفرد في سوريا قبل رفع حالة الطوارئ وبعده، بحسب ما ادعت السلطة الرسمية. خلال مرحلة الطوارئ، كان فم المواطن موصوداً بقفل، بعد رفع الحالة الأمنية، أزيل القفل ووضع السلاح في فمه. في رسم آخر، الديكتاتور وزوجته في مكتب خدمات السفر، والموظفة تسأله عن وجهة سفره “إلى جدة أو الى أوروبا؟”. للمدافعة عن حرية الصحافة، رُسم الديكتاتور يمتطي يد كاتب ويتحكم بقلمه الذي لا يكتب شيئاً.
يتمسك فن الشارع بحرية تعبيره، يبحث عن نفسه داخل نفسه، ويجد لغته في حضوره ونداء الحرية له، فينبجس الفن من أعماق الناس الذين يؤسسون وجودهم، بالمعنى الهايدغري، مستخدمين كل الإمكانات المتاحة لإفشاء أسرار النظام وحقيقته بعد تكثيفها، وانتشال صرخاتهم من هاوية النسيان بلغة تضمن صيرورة الحرية التي تحتويهم.
جسد الفنان
الفنان موجود خارج الحشود أو خارجها، في وسط الجموع ومحيطها. بالنسبة الى النظام، جسد الفنان يشكل ورطة لأنه أكثر الأجساد سرعة في الانتشار في هذه الساحة أو تلك، في هذا الشارع أو ذاك. جسده ينبوع اللذة الزئبقية التي لا يمكن التقاطها وتقييدها، فالصوت لا يُسجن في صداه، ولا الجسد في ظله، والأصابع ترسم وتكتب لكنها لا تلتصق بالأوراق، والحبر يردم الهوة السحيقة بينها وبين العيون التي ستشاهد أو تقرأ. نوع من اليوتوبيا هو جسد الفنان، يوتوبيا جسدية تنتقل، كجسد لا كظل، من مكان إلى آخر. إنه اكتظاظ دلالات اللغة التي تمزق الأربطة من حولها وتعيد خلق الحياة على أساس جوانية المعنى وأعماقه المتلاشية. جسد الفنان “شوكة في جسد” النظام، لا لشيء سوى أنهما متنافران، الأول غريب بين الظلال، والثاني يسلب الظلال أجسادها، ويتمتع بقعقعة سلاسلها في الكهف. عندما يختار الفنان جسده مكان الظل المنسوب إليه، ويدخل معه المعركة، تخاف السلطة (الظل الأكبر والجسد الأضخم) على موقعها، وتقرر أن تهشم هذا الجسد، أن تدميه، وتقتلعه من جذوره الممتدة في أعماق الرمز، لتقدمه عبرة لمن اعتبر، وتؤكد قوتها التي تقدر على التقاط الزئبق وكبحه، هو ورغباته. إلا أن جسد المغنّي لا يفارق صوته، ولا جسد الرسام لوحاته. جسد الفنان عدوى تنتشر وتعيد كل جسد إلى ظله، حتى لو غاب الفنان أو قُتل.
عرفت السلطة أن إبرهيم قاشوش يغنّي قبحها ويردد الشارع وراءه بشاعتها، لذا اقتلعت حنجرته، أسكتته، وظنّت أنها بذلك لم تبق منه شيئاً. بتخلصها منه جسداً وصوتاً، استيقظت المدن في سوريا والعالم على أكثر من حنجرة “قاشوشية” واحدة، وعلى آذان تحسن السمع. لقد استيقظت على أجساد الفن الذي يتذوق متعة “دفع الصخور من ذرى المنحدرات”، ولذة محو أسماء الأمكنة الضيّقة. يخطو الفن في الشارع أولى خطواته في الطريق إلى اكتشاف المحجوب. يدير الفنانون ظهورهم لنتاجهم الفني ليزيدوه وضوحاً، ويستمروا في دحرجة اللامرئي من السلطة إلى حدود المرئي، وفي إزاحة جسدها العملاق كي تتنفس أجسادهم وظلالها بحرية أكثر. كأن الفنانين يسمعون الفيلسوف ومبجل الفن نيتشه يخاطبهم بقوله إن كل طاغية “تعجزون عن تعليمه الطيران علّموه على الأقل أن يسرع في السقوط”، السقوط في الشارع.
النهار