الفن التعيس/ فوّاز حداد
استدرجت بلاطات الملوك والأمراء الفنّانين من الرسامين والنحّاتين والموسيقيين والمسرحيين، وأيضاً شعراء وعلماء وفلاسفة اعتبروا من المحظوظين. فالكثيرون سعوا إلى أن تشملهم النعمة وأخفقوا. لم تشذّ الحكومات الجمهورية عن هذا التقليد، بل وأُضيف إليهم فنانو السينما والتلفزيون، وكانت طريقهم إلى القصور الجمهورية معبّدةً بالورود والتزلّف لا بالأشواك والكبرياء، فشهرة الممثلين باتت توازي إن لم تفق شهرة رجال المال والأعمال.
فأن يُحتفى بفنان عالمي ويستقبله رئيس الجمهورية، ويتجوّل معه في الأسواق، لبادرة تبدو أنّها تدلّ على تقدير الفن. ولقد كان لها أن تدلّ على الثقافة والرقيّ أيضاً، لو أن هذا الرئيس لا يحكم شعبه بأجهزة أمنية تسمح لها صلاحياتها المطلقة، بالتعذيب والقتل والنهب والابتزاز.
دلّ أنموذج النظام الشمولي مراراً على إعجابه بالفنانين، فأكرمهم بالجوائز والهبات، لكن ليس من دون ثمن، بل حسب اعتقاد ظهر في ما بعد أنه لم يكن ساذجاً، وهو أن لآرائهم وتصريحاتهم ثقلاً يوازي شعبيتهم، وأن مواقفهم إلى جانبه ستعزّز مكانته داخلياً وخارجياً، ويكونون عوناً له في أيام الأزمات. ولقد ألجأته الظروفُ إلى قتل شعبه، وكان هذا الرهط من الفنانين عند حسن ظنّه، أما الذين كانوا عند سوء ظنّه فغادروا البلاد أو صمتوا.
قدّم فنانو النظام خدماتهم، وأيّدوا ذبح الشعب بمختلف الوسائل، وكان الكثير منها متوافراً، حتى أن الترسانة العسكرية استخدمت بكامل عتادها، وجرى استدعاء قتلة من خارج البلاد على هيئة مليشيات مذهبية، تساندها طائرات دولة عظمى، مما أدّى إلى احتلال البلد من دولتين.
يصلح هذا المشهد الدراماتيكي لجبروت النظام تحت رعاية دولة إقليمية ودولة كبرى، لتشكيل مسلسل تلفزيوني، تقوم على تنفيذه الفئة المختارة المساندة من الفنانين، عدد حلقاته لا تُحصى من فرط أعداد الضحايا والتدخّلات الدولية، وما انتاب هذا المشهد من إرهاب أعمى شارك في القتل على طريقته بقطع الرؤوس، بحجة إنقاذ الشعب من الثورة والنظام معاً.
لا يستوقفنا من هذا المشهد القاسي، النظام الذي يدافع عن بقائه في السلطة، ولا الفنّانون المأجورون، ولا حكومات الدول بمختلف أنواعها الدينية والعلمانية والديمقراطية والدكتاتورية، كلهم يعملون لحساب طموحات سياسية بحتة. يسترعي اهتمامنا، وأيضاً مخاوفنا شعبنا المنكوب برجاله ونسائه وأطفاله، وهذا الخراب الشامل، الديكور الوحيد على مدار مسلسل لا نعرف متى سينتهي.
فيا لتعاسة هذا الفن، عندما لا يخجل أبطاله من التجرؤ على تزوير مأثرة دخلت عامها السادس لبلدٍ محاصر. ما يُرتكب يتعدّى الزلة والخطأ إلى سقوط أخلاقي شنيع. فالفن كان دائماً نابذاً للقمع والعسف، وإذ يساند الظلم، يغاير طبيعته نفسها.
أما السؤال الحقيقي فيطرحه الفن المضاد للزيف: ما الذي يُبقي هذا الشعب على قيد الحياة، أعزل مشرداً ونازحاً وجائعاً ولاجئاً… ويطالب بالحرية؟
هذه هي القصة الكبرى، وما يختلقه الطغيان فليس إلا بياناً بالانحدار المتواصل في الخيانة.
العربي الجديد