صفحات الثقافة

الفن والثورة في سوريا: الثورة السورية…..اختلاط الدم بالفن

دفعت الثورة السورية إلى ظهور حركة احتجاج ثقافية وفنية متعددة الوجوه، ركزت على مناهضة نظام الأسد. شارلوته بانك تسلط الضوء على هذا المشهد الثقافي.
منذ أكثر من عام والناس في سوريا ينزلون إلى الشوارع للمطالبة بحقوقهم كمواطنين. من البداية كان الأمر واضحا، إلى حد كبير، بأنها ثورة للمهمشين، للناس البسطاء الذين خاب أملهم، مرات ومرات في السنوات الأخيرة، بالحصول على حياة أفضل. وفي الوثت نفسه ما فتئ مزيد من الأثرياء يظهرون، وغالبا يكونون من المقربين من النظام في دمشق، ويقومون بتوسيع ثرواتهم واستثماراتهم.
ومنذ بداية الحركة الاحتجاجية في سوريا انحاز بعض الفنانين والمثقفين إلى جانب الثائرين، وإن لم يكن هؤلاء المثقفون القوة المحركة للمظاهرات. إنها كما تصفها المخرجة السورية هالة العبد الله: “ثورة حقيقية انطلقت من الشعب، إنها ثورة شعب استيقظ بعد أربعين عاما من الاضطهاد”. والصراع موجود على جبهات مختلفة: في شوارع وساحات المدن السورية، وداخل المنازل، وفي الفضاء الافتراضي.
استراتيجيات ضد المستبد
حاويات القمامة كصناديق اقتراع: استهزاء بالاستفتاء على الدستور الجديد في مدينة الهامة بالقرب من العاصمة دمشق.
المظاهرات في سوريا تقدم نفسها بصورة مختلفة تماما عن تلك التي حدثت في مصر أو في تونس. ففي هاتين الدولتين العربيتين برزت، قبل كل شيء، حشود المتظاهرين الكبيرة في الشوارع والساحات، والتي قادت إلى سقوط الحكام الديكتاتوريين، خلال أيام أو أسابيع قليلة فقط. ولكن المحتجين في سوريا وجدوا أنفسهم مضطرين منذ البداية إلى سلوك طرق جديدة في التظاهر، لأن تجمع حشد كبير من الناس في الساحات الرئيسية سيكون هدفا سهل المنال لقوات الأمن وعناصر الجيش.
ولذلك كانت هناك حاجة للإبداع ولأفكار جديدة. اعتمد المحتجون في سوريا على عامل المفاجأة قبل كل شيء. وليس المثقفون وحدهم، وإنما المواطنون السوريون العاديون شاركوا في هذه الأشكال الإبداعية للثورة. مثال على ذلك: على اليوتيوب توجد مقاطع لا تحصى لفيديوهات التقطت تظهر الأعمال الوحشية وتعذيب الناس، وهناك أيضا فيديوهات قصيرة تعلق على الأحداث اليومية أو تعكس آمال الشعب. فكان هناك عروض تمثيلية جعلت الإستفتاء على الدستور الجديد يظهر وكأنه مهزلة انتخابية، عندما اتجه بعض الناخبين إلى وضع ورقة الاستفتاء في حاوية للقمامة، بدلا من أن يضعوها في صندوق الاقتراع. كما توجد فيديوهات تنتقد خطاب وتقارير وسائل الإعلام الرسمية السورية. وبأسلوب ساخر يظهر أحد المقاطع المصورة “خلية إرهابية” تطلق قذائفها المكونة من الباذنجان والبامية والبصل.
الدماء الحمراء بدلا من الماء في نافورات دمشق
الفن أضحى مرآة للثورة السورية
وإلى جانب هذه المشاهد الافتراضية كانت هناك دائما عمليات يتم تنفيذها أمام الملأ: قام المحتجون بإضافة صباغ ذي لون أحمر، مشابه للون الدم، إلى الماء الموجود في النافورات المعروفة في ساحة السبع بحرات في العاصمة دمشق. وتم تكرار هذه العملية أكثر من مرة حتى اضطرت السلطات إلى تفريغ المياه وإيقاف عمل النافورة. وفي إحدى المرات قام الناشطون بكتابة شعارات على كرات التنس ثم دحرجوا هذه الكرات من على سفح جبل قاسيون باتجاه مدينة دمشق، ودائما تتصاعد باتجاه السماء بالونات كتبوا عليها رسائل الحرية. الموسيقى والغناء والرقص أصبحت بسرعة عنصرا أساسيا في الثورة، التي أخذت بعدا جديدا: مسيرات الشوارع تحولت إلى ساحات للدبكات الشعبية.
الشهرة الأكبر نالها إبراهيم قاشوش، بأغنيته “يللا ارحل يا بشار”، والتي غناها في المظاهرات الحاشدة التي شهدتها مدينة حماة في تموز/ يوليو من العام الماضي. وبعد ذلك بوقت قصير تم قتل القاشوش واقتلاع حنجرته. وإن كان النظام قد أسكت صاحب الأغنية، إلا أنه لم يقتل عمله الفني. فلقد تحولت تلك الأغنية إلى مايشبه النشيد الوطني للثورة والثوار. وأصبحت أنشودة دائمة الترديد في مظاهرات السوريين سواء داخل سوريا أو خارجها. كما صار الناشطون يضعونها في أجهزة تسجيل مزودة بمكبرات للصوت، ثم يخبئونها في المؤسسات الحكومية أو على أسطح الجامعات أو حتى في حاويات القمامة في الشوارع، ثم يشغلون الأغنية ليصل صوتها إلى كل الآذان. مثل هذه الأعمال أصبحت أمثلة على إعادة اكتشاف الأمكنة العامة كمكان لتبادل الأفكار. ثم تطورت الأمكنة العامة بصورة كبيرة لتغدو مكانا للنقاش السياسي ومسرحا للمشاريع التضامنية من أجل الحرية والحقوق المدنية. الشوارع والساحات عادت ملكيتها للناس هناك.
عودة السياسة إلى الأمكنة العامة
حتى الدمى تسخر من نظام الأسد…
الوضع الآن مناقض تماما لما كان عليه استخدام الأمكنة العامة سابقا. عندما كان الجميع يتحرك بحذر شديد دون إظهار نفسه، ولديه شعور بأنه مراقب في كل خطوة يخطوها. والآن مازال معظم الناشطين يفضلون إخفاء هوياتهم الحقيقية. عاقدين آمالهم على أن إخفاء الأسماء يشجع مزيدا من الناس على الانخراط في تجمعات كبيرة، أو يتم اختيار أسماء جماعية لمجموعات الناشطين، أو أسماء حركية للناشطين. وكثيرا ما يظهر بعض الناشطين مرتدين قناعا. وكثير من النساء، اللواتي لايرتدين الخمار عادة، أصبحن يضعنه عند ظهورهن العلني.
ماهي الأخطار التي يمكن أن تحدق بهم، فيما لو أظهروا دعمهم للثورة بشكل علني، هذا مايمكن الإجابة عنه من خلال بعض الأمثلة كابراهيم قاشوش وعلي فرزات. فنان الكاريكاتير، الذي عبر عن دعمه الواضح للثورة، تم الاعتداء عليه وضربه وتهشيم أصابع يديه بشكل متعمد، لأنها هي التي يرسمها بها رسوماته الناقدة. تماما كما حصل مع قاشوش الذي اقتلعت حنجرته.
حماية هوية الناشطين
تبين هذه الأخطار الأهمية الكبيرة لإبقاء هويات الناشطين مخفية. وهذه الحماية لهوياتهم تمنح المبدعين من ناشطي الانترنت حريتهم. وبهذا تمكن ناشطون مثل “أبو نضارة” أن يقدموا مساهماتهم، وأن يواكبوا الثورة، منذ انطلاقتها، عبر أفلام قصيرة. وهم في ذلك تعمدوا النأي بأنفسهم عن العنف مفضلين المراهنة على الأعمال الفنية. وكذلك مجموعة “مصاصة متة” التي قدمت عبر مسرح الدمى باستخدام الأصابع سلسلة فنية بعنوان “كوابيس بيشو”، في إشارة إلى الرئيس السوري. وهذا العمل أكسب الفرقة شهرة دولية واسعة، ماكانت لتتأتى لولا وجود حماية للفضاء الافتراضي. وبهذا امكن فنانون وصانعو أفلام وناشطو على الانترنت من التحدث بلغة جديدة واضحة. سابقا كان يجب عليهم أن يستخدموا أسلوبا مجازيا ورمزيا في إنتاجاتهم، التي تحمل روح النقد الاجتماعي والسياسي، كي تفلت أعمالهم الفنية من مقص الرقابة.
ولكن الأعمال التعبيرية من فنانين ومخرجين معروفين، ممن يهتمون بالثورة، مازالت نادرة. منهم من أنتج أعمالا قصيرة، وإن كان البعض منهم قد فعل ذلك بأسماء مستعارة، لكي يعلنوا دعمهم للثوار ضد الأسد. وغالبا ما يلجأون إلى وسائل تقنية بسيطة ليعكسوا الثقافة البصرية المتغيرة، التي طبعتها فيديوهات الناشطين بطابعها الخاص. والآن هناك عدة مشاريع كبرى، لازالت في مرحلة التأسيس. الصحافي والمخرج محمد علي الأتاسي يعمل على مشروع يركز فيه على دور برنامج Skype في الثورة السورية. مشروع آخر تقوم به مجموعة فنانين، فضلوا عدم الإفصاح عن هوياتهم، ستقدم من خلاله سلسلة من البورتريهات لمختلف المدن السورية، التي أصبحت معروفة مؤخرا بسبب المظاهرات التي تخرج فيها والتي اضطرت لدفع ثمن كبير بسبب ذلك. تم تصوير البورتريهات لهذه المدن بحساسية خاصة، وإظهار جراح هذه الأماكن وسكانها بحذر. هذه الأفلام تسلط الضوء على الناس وآمالهم وذكرياتهم وحالة الخذلان التي يشعرون بها.
ومنذ القصف الوحشي الذي استهدف حمص مؤخرا لم يعد هناك حاليا أي سبب، ولو بسيط، للتفاؤل. الكثيرون يرون بأن القادم سيكون أسوأ. ولكن الأمر الثابت هو أن سوريا تغيرت تغيرات لارجعة فيها، وأن السوريين أعادوا اكتشاف أنفسهم. أو كما قال أحد المخرجين الشباب: “لقد تغيرت سوريا. من يذهب إلى المقهى يرى كيف أن الجميع يشتمون الحكومة بصوت عالٍ. الخوف الذي كان موجودا في الماضي تلاشى تماما!” قبل عام ونيف لم يكن من الممكن تصور مثل هذا الأمر. ولكن ماهو حجم الثمن الذي سيتم دفعه حتى تتحقق الأحلام ببلد حر، تبقى الإجابة على هذا السؤال غير منظورة في المستقبل القريب.
شارلوته بانك
ترجمة: فلاح آل ياس
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى