صفحات الثقافة

الفيتنامي زوان دياه “ملك قصائد الحب”

ها هنا غصن الخفر مع برعم الحب

ترجمة وتقديم فوزي محيدلي

في النصف الأول من القرن العشرين حدثت ثورة أدبية في الشعر الفيتنامي شكلت مثالاً للانتقال بل للتغيير في كتابة الشعر. عرفت هذه الثورة بـ”حركة الشعر الجديد”. وقد ولدت هذه الحركة من خلال الاحتكاك بالتطورات الأدبية والشعرية الغربية لأوائل القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر.

وبفعل توق الشعراء الفيتناميين نحو الحداثة، لم يضيعوا الوقت لتبني الشعرية الفرنسية ومبادئ علوم عروضها، وعملوا تباعاً على الانفصال عن التقليد الشعري الكلاسيكي القديم. لم تُلاق هذه الحركة المتمردة والمندفعة بالترحاب من قبل الحرس القديم، بل “القدماء”، الذين اعتبروا التقليدي الشعري الممتد لقرون عديدة أشبه بالمقدس. نشبت الحرب لفترة من الزمن بين “القدماء” و”المحدثين” بلا رحمة، حين اعتبر الحرس القديم الشعراء الجدد أنهم من دون بوصلة ولا يفقهون سوى القليل من فن الشعر.

هذا كله لا يعني إنطواء الأمر على التبسيط بتقسيم العالم الأدبي الفيتنامي إلى معسكرين اثنين حيث المدرسة القديمة غارقة في الثقافة الكونفوشوسية الكلاسيكية، فيما الجديدة تقع تحت تأثير الفكر الغربي. العديد من المثقفين الشبان بقوا مع التقليد إما بسبب الميل العفوي أو الإيمان به، تماماً مثلما احتضن الكثير من الجيل الأكبر سناً كلاً من التعاليم الجديدة والقديمة. بمعنى آخر كانت ثمة أقلية صامتة من المثقفين غير الملتزمين بأي من المعسكرين وقفوا عند التخوم فيما كان النزاع مستعراً.

مهما يكن، بدأت كامل عملية التجديد بشرارة من قصيدة غير منتظرة من الموقّر، لكن المرتد، العالم الكونفوشيوسي فان كويّ، مع عنوان غير متوقع “حب الكهولة”. واقعاً لم تكن هذه القصيدة الأولى التي تكسر العروض القائمة. ثمة شعراء مثل تان داونغين فان فين فعلوا ذلك على امتداد سنوات، بيد أن قصيدة فان كوي أتت عام 1932 في وقت ملائم، حين كان جيل من المثقفين الرجال والنساء يتوق لنسمة من هواء عليل وسط الجو الخانق للنزعة التقليدية. كانت قصيدته جديدة من ناحيتين: موضوع الحب السيئ المصير وشكل الشعر غير التقليدي المستند إلى الشعر الحر.

اللغة كانت اللغة اليومية البلدية المنطوقة بعفوية وبساطة. لم يكن فيها إشارة أو تلميح إلى الخرافات أو الأساطير الصينية، ولا إذعان إلى الشكل أو المادة التقليدية. كانت اللغة الشغوف لعاشقين لم يستطيعا الزواج وهما شابان بسبب طغيان جور التقليد وتحاملها. لكنهما يلتقيان بعد مرور عشرين سنة، يلتقي الاثنان بفعل الصدفة أو القدر فيطلقان العنان لشعلة حبهما المضطرمة أبداً في قلبيهما، وتضمنت القصيدة تفاصيل قد تعتبر حتى في أيامنا هذه من التابوات. كان هذا إنتصار الحرب، بل تمجيد الفردية. كانت ثورة الشاعر في منتصف العمر وقد عبر عنها في عمل ينضح بالجمال والعذوبة واتسم العمل بالجدة، سواء على صعيد الروح أو الشكل!

مع بروز أشكال شعرية وتقنيات أسلوبية جديدة، إبتكرت طرق تعبير جديدة، أفكار جديدة، فضلاً عن تقليد جمالي جديد أدت كلها بالنتيجة إلى تغيير اتجاه الشعر الفيتنامي وصوته إلى الأبد. بعد القطع مع قالب التقليدية، ومع تشرب الأفكار الغربية، زخّم الشعراء الفيتناميون للعقود الأربعة الأولى من القرن العشرين ثورتهم بحمية وحماسة، أضرمهما إلى مدى أبعد تشكيلة من التوجهات الخاصة بالموضوع. فقد سيطرت على العملية الإبداعية عواطف، أفكار، وآراء من كل الأنماط سواء الرومانسية، الثقافية، الفلسفية، وحتى السياسية، ولربما تبدى ذلك أكثر ما يكون في الرواية فضلاً عن الشعر.

رغم طابع المفارقة في الأمر، فإن هذه الحركة الشعرية لا يمكن وسمها باتجاهها إلى رمي كامل الأشكال التقليدية لنظم الشعر لصالح الشعرية الجديدة. واقعاً، العديد من الشعراء صاغوا أعمالهم بالشكل أو الوزن الذي يخدم أهدافهم وأغراضهم، بما في ذلك استعمال القديم. بأي حال، لا بد من الإشارة إلى أن السمة المميزة للحركة الجديدة هي التركيز على الحرية الفردية للتعبير غير المقيد بالكوابح الأسلوبية والأفكار الدارسة، فضلاً عن التوجه إلى التعبير عن القول الحر للمشاعر الحميمة بما في ذلك سيطرة الفردية على الشمولية. ويعطي التوجه الجديد أهمية أكبر للشخص كبنية تفكيرية وعاطفية.

يعتبر زوان دياه واحداً من أهم شعراء الحركة الجديدة، والذي اعتبر شاعراً رومانطيقياً. أكثر من ذلك قيل عنه “الشاعر الأعظم بين الشعراء الجدد” و”ملك قصائد الحب”. كان عضواً في “حركة الاعتماد على النفس الأدبية”، وبالطبع كان واحداً من قادة “حركة الشعر الجديد”.

تمجد دواوينه الحب، الحياة، السعادة وحب الحياة. ومن خلال ذلك مجد أيضاً الشباب، الربيع والطبيعة كمهد للحب. أبدى حزنه من مرور الزمن، من اضطرابات الحياة وأبدى عطشاً لحياة لا تفنى.

يجسد زوان دياه “الحركة الشعرية الجديدة” من ناحية الأسلوب، إن لم يكن من ناحية الروح أيضاً. شعره مشبّع بالعواطف الشديدة، القوية، الحارقة، وطافح بالتوق والشره. يعامل موضوع الحب بصور عالية التعبير، بموسقة، بمخيلة جريئة وأحياناً بمرارة قارصة. يكمن إرث إبداعه الذي لا ينطفئ في عذوبة لغته المجازية، نبرته بل أسلوبه الشديد الخصوصية، والفردية، أصالة مشاعره التي ترنّ بين ظهراني القرّاء الحديثين بل المعاصرين بمفردة مذهلة، وثمة أيضاً جسارة حساسيته الفنية. ومن دون شك، دياه شاعر رومانسي بامتياز قورن بالرومانطيقيين الفرنسيين أو الانكليز أم لا.

لا بد من الإشارة إلى أن قصائد هذا الشاعر تدرّس في المرحلة الثانوية، كما وأن اسمه أطلق على أحد شوارع هانوي.

[قوليها

“احبك بشغاف قلبي، يا حبيبي، أليس ذلك كافياً؟”

“كم أنت طماع، ومتطلب أيضاً!”

“أنت أدرى بذلك، لأني أخبرتك أني أحبك”

“لماذا تصرّ عليّ ترداد شيء معروف؟”

“أعلم أنك تحبيني من أعماق قلبك، لكن هل هذا كاف؟”

“إذا كنت تحبينني لكنك تبقين ذلك في داخلك ولا تظهرينه، حينها تغدو الكلمات فارغة، والجمال ببرودة الرخام ذاتها”

لديّ رغبة جامحة فيك، هل تدرين؟

ومطلقة أيضاً. أنا في بحث دائم عنك

إذا كانت حقيقة اليوم ليست حقيقة في الغد،

كيف يمكن، يا حبيبتي، ألا يكون البوح بالحب كذلك؟

أحبي من أعماق قلبك، لكن هذا أليس كافياً

عليك ترداد كلمة حب مئات، لا، بل آلاف المرات.

أحبي إلى حد تغدو معه كل ليلة واحدة إحدى ليالي الربيع،

وتغدو العصافير والفراشات حرة في روضة الحب

قوليها، عليك قولها، عليك ذلك

مع كلمات تسكن بالتحديد عينيك وحاجبيك

مع الفرح، التورد، والإنجذاب عند الغسق

مع الرأس يروم العناق، الابتسامة على شفتيك والذراعان الحاضنتان

بالشغف الذي لا يبلغه الكلام، ما غيره يجب أن أعرف!

[تأكدي من عدم بقائك

باردة كالثلج

أو لا مبالية قرب شخص تأكله الرغبة.

ولا تكوني هادئة كما الماء الراكد داخل بركة.

أحبي بعمق، لكن ذلك غير كاف.

[المساء

اليوم تصعد الغيمات المتخففات من وزنها صوب الأعالي

بلا فرح أنا، لكن من دون أن أدري السبب.

تسّاقط بتلات الورد بسكينة فوق الدروب الريفية

فيما الندى العذري يغطي نوافير الحب.

طافية، تتجول أرواح الورد

ناشرة في الأرجاء بأنفاسها جمال الحب العذب.

يبدو أن الريح بها جوع لتعبر الجدول،

لكنها تخشى أن يكشف القصب المنداح المركب الخالي.

يبدو أن الهواء يرتدي نسيجاً متشربكاً

تؤدي كل خطوة الى تمزيقه وكل حركة الى شقّه.

رائق يتهادى المساء في ضباب الغسق

رغم ذلك يتقلب فؤادي في أسى خفيف ورقيق.

[رغم ذلك أضناه الحب

في هذا اليوم البارد تأوي الشمس الى سريرها باكراً.

أفتقدكِ، يا حبيبتي، أشتاقُ إليكِ كثيراً.

لا شيء أكثر حزناً من مساء ساكن

حين يمتزج الغسق بآخر الأشعة

الريح الزاحفة تنزلق فوق العشب المتشابك

وسط نتف الليل المختبئة بين الأغصان.

يتبع الغيم طيوره الى الجبال الخضراء

ضمن قطعان وصفوف صامتة الانسجام

فيما السموات الرمادية القريبة تذوب

الى دموع رطبة.

إنتهى الأمر الآن! ما الذي بقي، يا حبيبتي؟

إنتهى الأمر الآن! لا ريح عبر العليّة ولا قمر

على شرفة المدخل

فيما أوراق منداة تتساقط ضمن نطاق

رؤوسنا.

لا مزيد من الغيرة، الغضب أو الضغينة

(يا لبركة أن نغضب من بعضنا!)

الآن وأنا وحيد، أسمع كل شيء

ينز ببطء الى داخل روحي الوحيدة.

أفتقد صوتك، شخصك، وصورتك.

أشتاق إليك، يا حبيبتي، يا لمقدار شوقي

إليكِ، يا حبيبتي!

وأتذكر تلك الأيام البعيدة.

أفتقد شفتيك التي ابتسمت في الريف البعيد

وعينيك المتطلعتين صوبي والمليئتين بولهٍ عميق.

يا حبيبتي، إقتربي! ناوليني يدك!

أواه يا الريح، أواه من هبّاتك التي تجلب لي الذكريات!

أواه يا الذكريات، ما الصالح الذي استدعيتني من أجله؟

[عطايا

ها هنا ثمة رزمة أشواق، حزمة حب،

وها هنا برعم الحلم بانتظار النور الضبابي،

ها هنا أيضاً الأوراق الضاجة تصفق في الريح

وها هنا غصن الخفر مع برعم الحب.

حديقتي كلها في حالة توثب،

لأنكِ تمتلكين ذاك التأثير الشعري.

تعالي الى هنا لاقتطاف زهرتيّ حظ

ولتنقذي فؤادي من رجاء سيئ الطالع.

ما كادت قدماكِ تسعيان صوبي

حتى انطلقت العصافير بالتغريد،

والصفصاف بالغناء.

إفتحي ذراعيكِ لاحتضان الربيع،

ومن ثم فلينطلق من يدكِ النور.

[لماذا

في ذلك اليوم، تقابلنا تحت دبيب أشعة الشمس

ناظرة إليّ، شئتِ أن تسأليني “لماذا؟”

أذكر أني حين وصلتُ الى هناك شاهدت على شفتيك

الجميلتين

ملمح ابتسامة شد ما أفرحت عيني.

أتساءل لماذا دُفعتُ حتى في ذلك اليوم الأول

وبسرعة الى حزن غير قليل.

بالكاد خطوتُ الدرب

حتى أدركت في الحال أننا لن نكون حبيبين.

من ذا الذي يود تبديد الضوع

أو تدمير قطعة موسيقية! جلّ ما أطلبه

هو أن أحب مقتفياً نبضات فؤادي

مثل زورق صياد ضائع في جون يملأه الضباب.

كيف يمكن للمرء شرح معنى الحب!

وكيف يمكن في غسق أحد أيام ذاك المعنى المتأتي!

إنه يملأ روحي بأشعة شمس شاحبة

بسحب واهية ونسائم خفيفة.

أنتِ يا من تفدين من بساتين شجر جوز الهند

وفيما أنتِ واقفة في عميق المياه الجذلانة،

إسمحي لهذا الرجل العابر للصحراء

الاحتماء بك من الصيف اللاهب.

حينها سأبرح هذا المكان من الغد.

تسألني لماذا؟ ولماذا يهتم كثيراً مطلق شخص

ليعرف؟

ما أنا سوى ساذج بطيء الفهم

لا يدري سوى أن يحب، وهو لا يفقه شيئاً.

[أود القبض على

بدأت الحياة للتو بالانبلاج.

أود الإمساك بالسحاب والريح.

سكران من الحب فوق جناحي فراشة

أود أن أعانق بقبلة ولهى

الجبال، والجداول والعشب الزاهي

أو الحبور وسط عالم الشذا والنور هذا.

أن أُشبع روحي بريعان الحياة.

أواه يا الربيع الفضة المذهبة! كم أود غرس أسناني فيك!

زوان دياه

ولد في الثاني من شباط لعام 1916 وتوفي في 18 كانون الأول من عام 1985. ينظر إليه على أنه شخصية كبيرة في الأدب الفيتنامي الحديث. نظم نحو 450 قصيدة فضلاً عن العديد من القصص القصيرة والمقالات ولا سيما في النقد الأدبي. يذكر أنه نال عام 1943 لشهادة مهندس زراعي. شاعر الرومانسية و”الأعظم بين الشعراء الجدد”.

إنخرط في القوات العسكرية “الفييت-مينه” وأصبح واحداً من الشعراء الطليعيين في الكتابة لدعم مقاومة الاحتلال الفرنسي. رغم شهرة قصائد الحب التي نظمها إلا أنه تزوّج لفترة وجيزة ومات أعزب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى