صفحات الحوار

الفيلسوف الفرنسي فريد بوشي: إدوارد سعيد إنساني راديكالي

 

 

ترجمة عبدالرحيم نورالدين:

فريد بوشي فيلسوف فرنسي وأستاذ للفلسفة المعاصرة في الجامعة الكاثوليكية للغرب. نشر أكثر من 15 كتابا ونال سنة 2009 جائزة «جان فينو» التي تمنحها أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية، عن مؤلفه «جروح حميمة، جروح اجتماعية. من الشكوى إلى التضامن» (دار نشر سير).

وبمناسبة نشره لكتابه «إدوارد سعـــــــــيد الإنساني الراديكالي. في أصول الفكر ما بعد الكولونيالي» .. تنشر «القدس العربي» ترجمة الحوار الذي أجراه مراسل صحيفة لومانيتيه معه:

 

■ يلاحظ أنك تقيم موازاة بين فرانتز فانون وإدوارد سعيد. من كان ذاك الذي تشير إليه باعتباره «إنسانيا راديكاليا»؟

□ إسمح لي في البداية بالتشديد على ما قادني إلى الاشتغال على هذا المفكر. أولا، منذ 20 سنة، كان جوهر بحثي يتعلق بالفلسفة الاجتماعية. أنا اهتم بقضايا واقعية مثل التهميش، المعاناة الاجتماعية أو الهشاشة. يتعلق الأمر إذن بـ» تشخيص الحاضر»، مثلما يقول فوكو، وتحديد أمراض المجتمع، لكن أيضا المقاومات الصغيرة جدا، واقتراح مسارات بهدف التحويل الاجتماعي. بهذا المعنى، أنا انخرط كليا في تيار النظرية النقدية، كما يتمظهر في ألمانيا مع أكسيل هونيث. بعد الانتهاء من تحرير كتاب، غالبا ما ألاحظ وجود ما أسميها الرقائق (كذكرى عن مهنتي الأولى: ميكانيك الصنع). إن هذه الرقائق تمثل في الواقع أسئلة أو مشاكل لم تحل بعد. بصفة عامة، وفي ما بعد، أعود إليها جاهدا التقدم وإتمام عملي. مثلا، بعد اشتغال طويل على المقصيين من الكلام، أدركت أنني أهملت كليا سؤال الشر السياسي، وهو المشكل الذي استثمرته مجددا عبر كتابة مؤلف عن آرندت وليفيناس. ولما كنت قد قضيت عشرة أعوام في حي شعبي، فإني احتفظ في ذهني أيضا بأهمية تفلسف المرء برجليه. فعلا، بمناسبة تبادل أفكار بعد تمرد 2005 الذي حدث في الضواحي الفرنسية، هجمت على حقول كنت أجهلها إلى ذلك الحين. بالفعل، وبالنظر إلى المعاناة التي عبر عنها ورثة الهجرة الشباب، بدا لي بديهيا أنه من الضروري الاشتغال على المسألة ما بعد الكولونيالية. بدأت إذن باقتراح سيمنار بحث عن «ذاكرة الاستعمار الجريحة» على طلبتي في الماستر. وخلال السنة الموالية، قدمت لهم المفكرين ما بعد الاستعمار، وضمنهم فرانتز فانون و هـ. بهابها وج. س.سبيفاك. وهكذا كان أن اكتشفت إدوارد سعيد من خلال دراستي لهؤلاء المفكرين. بالرجوع إلى سؤالك، إن هذا المثقف المشهور، المترجم في جميع أنحاء العالم، ولد سنة 1935 في القدس. أستاذ للأدب المقارن في جامعة كولومبيا (نيويورك)، وهو معروف خاصة بعمله حول الاستشراق. إنسان المعابر والمنفى، هذا المثقف الملتزم كان يقول باستمرار: «في كل مرة أتفوه بجملة باللغة الإنكليزية، أشعر كأنني أبحث لها عن صدى عربي، والعكس بالعكس»، بل إنه لم يبدأ في التخلص من الإحساس بالضيق من اللقب الإنكليزي «إدوارد» الملحق باسمه العربي «سعيد»، إلا في الخمسين من عمره. هذا الشعور بالوجود دوما بين عالمين، وبكونه منفيا، هو ما أثر فيّ شخصيا. من دون شك أن أصولي العمالية ومكانتي الحالية كجامعي جعلاني أشعر بالنوع نفسه من المنفى. لقد شاهد سعيد، الذي توفي سنة2003، انقلاب حياته انطلاقا من 1967، لحظة حرب الستة أيام. خلال هذه المرحلة، سيربط الاتصال مجددا بالشرق الأوسط، خاصة على مستوى اللسان والأدب العربيين. وفي الوقت ذاته، لن يغادره السؤال السياسي.

■ ما الذي يميز ويعارض بين منهج قراءة سعيد ومنهج قراءة بارث أو فوكو؟ وما الذي يدفعنا إلى جعله قريبا من منهج لوسيان غولدمان؟

□ أنت محق في هذه التقريبات، ذلك أن سعيد سيهتم بالفعل كثيرا بالمثقفين الفرنسيين. وإن كان سيتركهم بعد السبعينيات، بسبب قلة اهتمامهم بأحداث الشرق الأوسط السياسية. لنبدأ برولان بارث الذي يعرفه الجمهور العريض، خاصة من خلال كتابه الشهير «أسطوريات» الذي يحلل فيه سيرورات المعنى التي بفضلها حولت البورجوازية ثقافتها التاريخية كطبقة إلى طبيعة كونية. سيطور السيميولوجي الفرنسي عدة نظريات حول النص، لكن سعيد، من جهته، يهتم أساسا بمرحلته البنيوية. في الواقع، يكمن هذا النهج في قراءة نص من دون أخذ مرجعياته الخارجية ( قصد الكاتب، السياق السوسيوثقافي، إلخ) بعين الاعتبار. هذا النهج صارم، إنه يجنب القارئ إسقاط رغباته الخاصة أو أيديولوجياته على النص. لكنه يبقى مقاربة باردة جدا تفصل، حسب سعيد بين الأدب والعالم. أما بخصوص فوكو، فالأمر مختلف، إذ رغم اعتباره في المعتاد بنيويا، إلا أن صاحب «أركيولوجيا المعرفة» يهتم بالتمفصل بين الخطاب والسلطة. وفي رأيه، فالإنتاج الخطابي مرتبط دوما بشكل من العنف بمجرد فرضه لنظام لساني على العالم. سيتذكر سعيد هذا عندما سيشتغل على الخطاب الكولونيالي. بعد تسجيل هذا، يأسف سعيد على كون الفيلسوف الفرنسي لم يعر اهتماما أبدا للعلاقات التي يقيمها منجزه مع كتاب ما بعد كولونياليين أو نسويين واجهوا مشاكل التهميش والسجن أو الهيمنة. بالمقابل، يبدو لي بالفعل أنه أكثر قربا من لوسيان غولدمان. يربط عالم اجتماع الأدب في «الإله الخفي» بين تراجيديات راسين ومصالح فئات اجتماعية. يتعلق الأمر هنا بعمل شيق يطرح خلاله غولدمان سؤالين أساسيين: ما هي رؤية العالم الكامنة في مسرح راسين؟ وكيف يمكن تفسير هذا النمط من التمثل بالعلاقة مع فئة اجتماعية من القرن السابع عشر؟ إن هذه القراءة الماركسية للأدب لا تطابق بالضبط منهج سعيد، لكنها تبدو لي قريبة جدا منه، ما دام سعيد يعير انتباها خاصا لدور التاريخ وللسياق وللعالم في مقاربته للأدب.

■ ما الأهداف التي مال ويميل إليها مفهوم الشرق والاستشراق، من منظور سعيد؟

□ يسائل سعيد المعارف الأكاديمية التي يشيدها الغرب حول باقي العالم. يكمن تفكيره في التشديد على البعد الإيديولوجي للاستشراق الذي يفهمه كمصدر لأحكام الأمريكيين المسبقة المضادة للعرب، وباستطاعتنا أن نضيف: أحكام الأوروبيين المسبقة أيضا. يحلل أستاذ الأدب المقارن في إبداعه العظيم الموسوم بـ»الاستشراق»، كيف تتمظهر استراتيجيات السلطة الإمبراطورية، بتعابير جيوسياسية، في مستوى الخطابات التي تنتجها تخصصات متنوعة مثل الجغرافيا والأدب والإثنوغرافيا واللسانيات والتاريخ. تشكل هذه الخطابات إذن موضوعا جغرافيا محددا مسمى الـ»شرق»، مع مجموع المعارف التي تصير مرتبطة به. لكنها تُعِد أيضا، وبشكل خاص، بناء للآخر يسمح بتأكيد الخصائص العليا للحضارة الغربية. وهكذا كان المشروع الاستعماري، بحسب سعيد، قائما على قاعدة بنية تحتية خطابية، باقتصاد رمزي، وبجهاز معارف كامل يحمل العنف الإبستيمي والمادي نفسه. في العالم العربي، سيتم إدراك وتفسير كتاب «الاستشراق» فور صدوره، كتمثيل منهجي للإسلام والعرب وكدفاع عنهما. إلا أن قصد سعيد لم يكن هو إظهار الشرق الحقيقي أو الإسلام الواقعي. ذلك أن كلمتي «شرق» و»غرب»، بحسبه، لا تطابق أي واقع ثابت قد يتأتى عن واقعة طبيعية. إن الهوية، عوض أن تكون جامدة في مفهوم ثابت، تنتج عن سيرورة تاريخية، اجتماعية، ثقافية وسياسية، وتتمظهر كصراع يشرك الأفراد والمؤسسات داخل المجتمعات. ويكون بناء هوية ما، في كل مجتمع، مرتبطا بممارسة السلطة ولا علاقة له أبدا بنقاش أكاديمي صرف. إن كل هوية هي نتيجة لبناء فكري، بل أحيانا ما تكون مخترعة من عدم.

■ كيف انتقل سعيد من عمله على النص إلى الالتزام السياسي، وخاصة الالتزام بفلسطين؟

□ ليس الأدب والسياسة في فكره، بكيفية ما، سوى أمر واحد، بعد حرب الستة أيام سنة 1967، كما أشرت إلى ذلك آنفا، بدأ سعيد يكتب عن فلسطين، حلل الظلم الذي رافق تكوين دولة إسرائيل الحديثة واقترح قصة مضادة للإدراك المشترك للعرب كإرهابيين وقتلة لضحايا أبرياء. يرافع من عَرَّف نفسه أحيانا كآخر المثقفين اليهود، من أجل إعادة تقييم المظالم، من جهتي الانكسار بين الإسرائيليين والفلسطينيين. إن مفتاح فهم مصير الشعب الفلسطيني، تبعا له، يقيم في الحدة والهوى اللتين أَدركَ بهما اليهود فكرة الأرض الأصلية. إن حجب فلسطين ليس نتيجة للبروباغندا الصهيونية فقط. لقد ساعد على ذلك الخطاب الاستشراقي وموقفه الثقافي من الفلسطينيين. هذا الموقف ناجم عن الأحكام المسبقة القديمة الغربية بخصوص الإسلام والعرب والشرق، وهي الأحكام ذاتهاالتي تبناها الفلسطينيون أنفسهم في النهاية. يسأل سعيد حينئذ، باسم أي مقتضى أخلاقي يجب إقصاء الفلسطينيين، في مستوى مطالبتهم بوجود وطني، بأرض وبحقوق إنسانية. ضمنيا وفي كتاب آخر، يحمل عنوانا صائبا هو قضية فلسطين، يشيّد سعيد الإسرائيليين كغرب والفلسطينيين كشرق. من الممكن إذن ربط التحليل بكل ما قلته قبل قليل. وهكذا فالصراع الذي ابتدأ منذ زمن طويل، يصير مفهوما كصراع قوى الحضارة الأوروبية ضد «العرب غير المتحضرين». يصف سعيد الصراع بين الفلسطينيين والصهيونية كنزاع بين تواجد وتأويل. هكذا ترون أننا لم نبتعد عن سؤال النص. بالفعل، لقد كان العرب يسكنون في هذا البلد، أدب الرحلات إلى الشرق خلال القرن الثامن عشر أو التاسع عشر شاهد على تواجد سكان أرض فلسطين ومعظمهم من العرب. لكن ألفونس دولا مارتين أكد من قبل، في كتابه « رحلة إلى الشرق» (1835) أن هذا المجال الترابي لم يكن وطنا، وأنه يشكل بالتالي مكانا رائعا لمشروع إمبراطوري أو استعماري قد تنفذه فرنسا. بيد أن هذا النوع من التفكير هو ما سيلهم الشعار الصهيوني «أرض بدون شعب لشعب بدون أرض» تبعا لصيغة إسرائيل زانغفيل.

■ لماذا تجب قراءة أو إعادة قراءة إدوارد سعيد اليوم؟

□ لقد عشنا برعب شديد أحداث 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 الرهيبة. إن خطر الخلط والصورة النمطية يظل حاضرا الآن. ومن جانب آخر، فإن اليمين المتطرف مستمر في ترويج أخلاط وفي إذكاء المخاوف. نحو أي أفق يمكن للشباب العاطلين التوجه، في إطار رأسمالية عنيفة غير مسبوقة؟ إن علينا، أكثر من أي وقت مضى، الاشتغال على المتخيلات والثقافة. الحكاية الوطنية في وضعية عطب. ذاكرة المعارك الاجتماعية تتآكل. الهوية السردية، العزيزة على بول ريكور، تجد نفسها متجاوزة تدريجيا من طرف سيرورة نزع صفة الإقليمية، وتساهم في إنتاج هويات رقمية. تبدو لي قراءة سعيد اليوم جوهرية من أجل تجاوز تمثلاتنا الجامدة عن العربي، أو عن الإسلام، وإعادة اختراع إنسية حقيقية. في الاتجاه نفسه، يتوجب علينا أيضا، ومن دون شك، الإنصات أكثر إلى مغنيي «الراب». أفكر بهذه المناسبة، في كلمات أغنية يوسوفا: «لا تعترف فرنسا بالطوائف، لكنها تعاملنا كطوائف. عندما يُقاطَع الناس، سيسأمون بالضرورة.عندما يُهمَّش الناس، سيبتعدون بالضرورة». إن السياق الحالي صعب، لكن بعض المثقفين أمثال سعيد يمنحون تماسكا لمعاركنا ولآمالنا. إن الإنسية الحقيقية التي نحن بأمس الحاجة إليها اليوم، لا يمكنها حصر المواطنين في الدفاع عن عظمة ثقافتهم ولغتهم ومآثر بلدهم. على العكس، فالإنسية التي يدافع عنها المثقف الفلسطيني-الأمريكي، تظهر في الاهتمام المتواصل بفهم وإعادة تأويل ومواجهة لغات وألسن وتواريخ أخرى. إن القاتل هو الانغلاق على الذات. يمنح سعيد قيمة لمقاومة الأفكار، ولنمط معارضة كل أنواع الكليشيهات أو الكلام غير المفكر فيه. إنه يقدم لنا إذن أدوات تعطي من جديد نكهة للمقاومة المواطنة.

المصدر: جريدة لومانيتيه الفرنسية

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى