الفُصام الثوري القهري: ثلاثة أفكار للعلاج/ علي موره لي
لن يسجّل التاريخ القريب ثورة ثقيلة كالثورة في سورية . بأكلافها البشرية و المادية . و بمخرجاتها النفسية والإجتماعية . حتى بات لزاماً على السوريين أن يبدعوا حلولاً لأزمات حضارية يتجاوز تعقيدها وتجذّرها وامتدادها الحدث الثوري الملموس عند لحظته التاريخية المحددة .
وحش برأسين يروّع السوريين والعالم كله خلف ظهورهم ، رأس النظام و رأس السلفية الجهادية . التي نمت في الأرض بفعل أسلوب (السقاية بالبراميل) , الذي انتهجه جيش الأسد ضد المناطق المحررة ، لتصير أرضاً بوْراً على شاكلة (تورا بورا) . منعاً (لبنغزتها) وللحيلولة دون نشوء أيّ إدارة مدنية مستقلة فيها.
مع تفتّق الهويّة وتعمّق الهوّة الطائفيّة ، وانسداد المخارج السياسية وتفاقم الأزمة الإنسانية و الإجتماعية . أصبح الخطاب الثوري حائراً ملتبساً تكاد تصيبه لوثة . أصوات ساندت الإنتفاضة في بداياتها على مضض أو حرج آثرت الإنسحاب أو وجّهت طاقتها كليّاً في مواجهة التطرّف تحت غطاء (المراجعة) . أُخرى اعتكفت وانزوت . والقليلة الباقية تخوض صراعاً مريراً على جبهتي مدّ جذوة الثورة ونقد السلفية الجهادية فكراً وممارسة. صار الخطاب خطابات ، و الوجهة وجهات .
المهمة تبدو شاقّة و مضنية . النظام العالمي الذي سيّر إعلامه منذ الأول نحو تمييع الحدث السوري ، بغية التبرير لرأيه العام إحجامه عن التدخّل ، بات اليوم أقرب إلى (تعويم الأسد) في السر و العلن . النظام الآن له العدو الذي طالما حلم به . و أدار حربه الإعلامية كلها حول مارده ؛ الإرهاب . فمالسبل إزا هاذا الحال ، إلى تمكين الخطاب الثوري وإعادة توجيهه في مقتضى الراهن ؟
إعادة الأحداث إلى نصابها الزمني
على الرغم من إستماتة الأجهزة الأمنية ، ومؤسساتها الإعلامية الخاضعة لشركة السلطة و الفساد ، في حجب ماجرى داخل البلد زمان الثورة الأول . إلا أن الحدث وبفضل الإعلام البديل ، و بسالة النشطاء ، حظي بتوثيق شامل و تزامني . وباعتراف المؤسسات الدولية .المحاولات الحثيثة لشطب مرحلة النضال السلمي وما واجهها من عنف عاري ، لاتزال جارية . والعالم أميل لجهة ربط الشرق ثقافيا بالعنف و التطرف . حين تتسلل فجوة الذاكرة نفسها إلى الخطاب الثوري ذاته ، ذلك ضرر يصيب رافعه الأخلاقي ، و يلحق به هزيمة معنوية مضافة . لن يدفَعها جلد الذات ، ولا الميلانكوليا السياسية .
إدارة الفصل بين الفكري و السياسي
لم يبدأ نقد السلطان الديني في الشرق مع اندلاع الإنتفاضة السورية ، مع تجربة الأخوان في مصر . أو مؤخراً بعد إعلان (خلافة البغدادي) . إنه جهد ممتد منذ العهد الأموي . وسيستمر ذات الجهد لسنين وعقود قادمة . ولا يجوز أن يحمّل الخطاب الثوري وزر أزمة تاريخية بنيويّة . انطلق الحراك مدنياً، فسياسياً. و من ثم اتخذ شكل كفاحٍ مسلّح . فرضت عصبيّة النظام وميل الميزان الدولي و حدّة الاستقطاب الإقليمي ، الإنزلاق نحو نزاع أهلي يتطلّب الخروج منه ، عملاً سياسياً بالأساس و الضرورة . في حين بات دفع شبهة التطرف يشغل متن الخطاب الثوري . وانحسرت قضيّة التحرر السياسي ، ألا وهي تغيير النظام بإسقاط رموز الفساد و الإستبداد ، وملاحقة قادة الحرب الهمجية على الشعب ، إلى الهامش .
ليس هناك من ثورة نقيّة
الإنتفاضة السورية حلقة متأخرة من سلسلة هزّات توزّعت على مسار زمني ، جعلتها تستوعب رضوض الحلقات السابقة من تونس إلى ليبيا . مما ساهم في تكثيف الحدث السوري حتى أصبح أشبه بثورة تنتج ثورتها المضادة باستمرار . فرنٌ يصهر كل المآلات السابقة ويُلهب اللاحقة . تشي الأحداث اليوم ، بتحوّل بلاد الشام إلى جبهة من جبهات حرب عالمية ، ستتأرجح بين السخونة و البرودة إلى أجل . لذا ، وجب على الخطاب الثوري أن يعي حركة التاريخ . تكاد لم تخل ثورة من كسور و انتكاسات . من عنف وعنف مضاد . جلّ الثورات أججت صراعات أهلية و أشعلت حروباً كبرى . الثورة هي أن تثور على ماهو قائم . أن تفعل و أن تحدث خرقاً . أما التغيير فهو سيرورة يدفعها نضال متسق . أن تنزّه فكرة الثورة وتعقلن . أو تعلّب وتهذّب ويعاد تدويرها ، فهذا ليس سوى باب للرياضة الفكرية . إن بات قدر السوري أن تُحلّ مشاكل العالم على أرضه ، على السوري ألا يجعل قدره يفقده صوابه ، فبلده ، لينهزم أمام كل من الطاغية و (الخليفة) .
خاص – صفحات سورية –