القارئ: أصدق النقاد/ صبحي حديدي
هنالك مسلّمة توافقت حولها، بعد أن اتفقت عليها، غالبية عريضة من الكاتبات والكتّاب، ممتهني الشعر والرواية بصفة خاصة، في العالم العربي المعاصر: أنّ زمن النقد الموضوعي، الذي يتوجب أن يواكب المبدع، قد مضى وانقضى، وطويت صفحاته المجيدة؛ وأنّ معظم، والبعض يجزم: كلّ، ما يُنتج اليوم من «نقد» ـ والأهلّة للشاكي(ة)، غنيّ عن القول ـ قائم على العصابات والزُمَر والمحسوبيات. وفي البناء على هذا، يندر أن يُنشر حوار مع شاعر(ة) أو روائي(ة)، من دون أن يقترن الموقف من النشاط النقدي بهذا الحكم، الساحق الماحق: أنا لا أعبأ بالنقد العربي السائد، لأنه كذا وكذا وكذا…
ولأنّ للنفاق مع ذلك «النقد»، إياه، ضرورات واعتبارات وحسابات، من باب حفظ خطّ الرجعة على الأقلّ؛ فإنّ صاحب الحكم ذاته يسارع إلى إضافة تلك العبارة السحرية، اللوذعية: «طبعاً، مع بعض الاستثناءات القليلة». ظريفة هذه اللاحقة، وماكرة بقدر ما هي فاقعة، يُراد لها أن تهبط برداً وسلاماً على قلوب جميع النقاد من دون استثناء، أغلب الظنّ؛ لا لشيء سوى أنّ كلّ ناقد سوف يسارع إلى تصنيف نفسه (من تلقاء نفسه!) في خانة مخلوقات الاستثناءات تلك؛ رغم أنّ القياس المنطقي البسيط يشير إلى قاعدة ذهبية، بسيطة بدورها: ما فسد كثيره فقليله فاسد أيضاً، بالعدوى… في أقلّ تقدير!
والحال أنّ التاريخ الأدبي، شرقاً وغرباً في الواقع، يعلّمنا أنّ شيوع هذه المعارك – أو هذا النوع الزائف منها، تحديداً – إنما يشير أوّلاً إلى وجود أزمة عميقة أخرى، تتضافر مع أزمات اضطراب الأشكال، وقلق الأساليب، وانفلات الأجناس، وتصارع التيّارات، وائتلاف الزُمَر، وتكريس المحسوبيات. إنها الأزمة التي لا تضع المبدع في خندق قتالي ضدّ الناقد هذه المرّة، بل تلك التي تضعهما معاً، في خندق واحد، ضدّ القارئ، وضدّ القراءة. وليس بغير دلالات حاسمة، وفضّاحة تماماً، أنّ مفردة «القارئ» لا تَرِد على لسان الشاعر(ة) أو الروائي(ة)، وهما يكيلان السهام للناقد؛ ولا تَرِد، كذلك، على لسان الناقد حين يقرّر ردّ السهام إلى نحور أصحابها!
المتخاصمون يفترضون، سلفاً ومن دون كبير عناء، أنّ القارئ المستهلِك العريض إنما يقع خارج «قوس الصراع» بين جيوش الإبداع وجيوش النقد؛ وأنه، في الحساب الأخير، ليس رقماً في المعادلة «الحربية» الكفيلة بترجيح كفّة فريق على فريق. أو ربما لأنّ المتخاصمين يفترضون ضمناً أنّ القارئ، وتحديداً: ذاك الجدير بالدخول طرفاً في الصراع، لم يولد بعد؛ أو أنّ ولادته عسيرة بالتعريف، أو قيصرية بالتمنّي، أو هي مؤجلة إلى أجل لاحق لا صلة تجمعه بزمن اشتداد الصراع بين السيّد المبدع والسيّد الناقد: أجل خارج الآجال، في عبارة أخرى.
أين القارئ؟
ماذا يقرأ من إبداع أو نقد، ولماذا؟
ماذا يشتري من أصناف البضائع ذاتها، ولماذا؟
هذه أسئلة نافلة، أو أسئلة متخلفة، أو أسئلة لا تتفق أطراف الصراع على أمر، قدر اتفاقها على تغييبها تماماً من ساحة التناحر؛ وكفى الله المبدعين والنقّاد شرّ قتال غير محمود العواقب، حول قارئ غير محمود الصفات! الفاضح أكثر أنّ المبدع الذي يشتم النقد يتناسى هويّة الناقد الأوّل، القارئ، الذي لا يقتطع من قوته اليومي حصّة لشراء رواية أو مجموعة شعرية، فحسب؛ بل يفعل ذلك قبل، ومن دون حاجة إلى، ما قاله أو سيقوله الناقد عن هذه الرواية، أو تلك المجموعة الشعرية.
ذلك لأنّ مسألة «قبل» نابعة من حقيقة أننا لا نملك، بعدُ، تقاليد الاعتماد على ما تقوله الفصلية المتخصصة، أو الصحيفة اليومية؛ في مسعى ترشيد خيارات المستهلك، حول قيمة البضاعة الثقافية المطروحة في السوق (كما هي الحال في مجتمعات أخرى). وأمّا مسألة «من دون حاجة»، فإنها تنبثق من حقيقة أنّ أهواء القارئ، في اختيار البضاعة، لا تعتمد بالضرورة على نصائح يزوّده بها النقد من أجل فرز وتقليب البضاعة، قبل اتخاذ القرار بشرائها. ولعلّ الأمر قد يتخذ مساراً مناقضاً، يختصره ميل غريزي لدى المستهلك، يحثه على الارتياب في نوايا الإعلان الترويجي (النقد أو المراجعة الصحافية، هنا)؛ أو لأنّ هذا المستهلك قد تعوّد ألاّ يُلدغ من جحر، مرّتين!
وكان الفيلسوف والناقد الفرنسي الكبير غاستون باشلار يضرع إلى الله، صباح مساء، كي يعينه على اكتساب صفة «القارئ»؛ ليس بسبب من تواضع كاذب، أو تقليل من قيمة التأمّل الفلسفي والنقدي حول ظاهرة الإبداع، بل إجلالاً لمفهوم القراءة ذاتها، تحديداً. فلِمَ لا يتعظ المبدع بما يقوله الرجل عن قيمة القراءة؟ ولِمَ لا يحتكم إلى القارئ، في المقام الأوّل والأهمّ، بوصفه الناقد الأصدق، والأوّل أيضاً؟
القدس العربي