صفحات الثقافة

القربان


عباس بيضون

كل مساء نسمع حصيلة القتلى في سوريا، كل يوم نغدو أقرب إلى سوريا، كل تلك الذكريات السيئة تغدو بعيدة جداً. سبق للمعارضين السوريين أن استنكروها، سبق لهم أن انتقدوا نظامهم عليها، لكن هناك هذا الرعب اليومي، هذه العدمية المسائية، هذا الروح الانتحاري هذه الحصيلة اليومية للقتلى. يجمعنا الآن مع السوريين أعمق ما يجمع البشر، المأساة والفاجعة، ولكن يجمعنا مع ما يحدث على الضفة الأخرى الرمز الكبير لما يحدث. نريد لهذا الرمز أن يكون لنا أيضاً، نريد أن نقاسمه السوريين، فهذا الموت الذي يحدث كل يوم، كل صبح ومساء أكبر من أن يكون لبلد واحد، هذا الموت المتواتر أكبر من أن يكون لقضية واحدة. هذا القربان هو للأمم جميعاً ونحن من بينها نتقاسمه معها، كان لنا أيضاً ذات يوم حصيلتنا الدموية. كانت لنا حقول القتل ذاتها، كما كان لنا هذا الموت الزائر كل لحظة، وكل يوم، أطبقت علينا شباك القتل مرات ومرات واصطادت الجميع، من هنا وهناك. حصيلة القتل السوري لم تصل إلى الرقم اللبناني 150 ألفاً. عمر الحرب السورية لا تزال بعيدة جداً عن نهايات الحرب اللبنانية. ما نزال أعلى رقماً في القتل وأطول عمراً، لكننا مع ذلك نعرف انه عارنا، اقتتلنا لبنانياً ضد لبناني، مسيحياً ضد مسلم ولم نعرف إلا في الأخير انه عارنا، اننا أرخصنا دمنا وأرخصنا حياتنا، لكن رخص الحياة كان أيضاً رخص القتال ورخص الدوافع ورخص المجابهة. لن يقول السوريون إنه عارنا. سيقولون بلغة أخرى إنها تضحيتنا، إنه دَيننا للحرية سيقولون بحق إنه شرفنا وإنه تقدمتنا وإنه الثمن المستحق للبقاء وللشرف، لكم خسرنا نحن اللبنانيين بدون ثمن، لكم قاسينا بدون ثمن. لكم أرخصنا أنفسنا وحياتنا وكم نواصل الآن في ظل هذا الرخص ونتهافت كأننا لم ننهض من سقطتنا، ما عدنا نعرف كيف ننهض. نعرف أن ثمة فوادح على الضفة الأخرى. نعرف أن دماً يضيء ودماً يشع ودماً مجبولاً بالقيمة الأكبر: الحرية إذ فقط الحرية تساوي كل خسارة وكل تضحية في سبيلها. نستضيء نحن أيضاً بذلك الدم، بتلك التضحية التي تهرَق على الضفة الأخرى، نقف مع المناضلين ونتمنى ان يقاسمونا شرفهم. نعضّ على لساننا من خشية ان يتعثروا، من خشية ان يقعوا في ما وقعنا ذات يوم فيه لا إشفاقا عليهم فحسب بل هو إشفاق على أنفسنا، لأننا لا نعفي أنفسنا من عواقب ما يجري على الضفة الأخرى، ولأننا نحلم ان يطهرنا الدم السوري، أن يرفع عنا عارنا، لسنا وحدنا في ذلك، فلنعترف ان العار العربي كله سيرفع عنا بفضل هذه التضحية، ان هذا القربان لنا جميعاً وان ما سيفعله قد يكون أكثر مما نتوقع، أن أموراً كثيرة ستتغير بفضله، أن نبعاً جديداً للقيم والحقائق قد انبجس وعلينا ان تستسقي.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى