القصة السورية/ مصطفى زين
يأخذك الديبلوماسي غيث أرمنازي في كتابه «القصة السورية» (the story of syria) الصادر عن دار «غيلغامش» في لندن، في رحلة عبر تاريخ بلاد الشام وكيف ولدت الدولة السورية الحديثة، والصراعات فيها وعليها، باعتبارها قلب الشرق، ومصدرة «المعرفة» (قديماً)، مروراً بالفتح الإسلامي والدولة الأموية، هذه الإمبراطورية التي امتدت إلى الأندلس وفرنسا غرباً، وإلى الصين شرقاً، لتنشر المعرفة والعلوم التي كانت نتيجة طبيعية لتمازج شعوب مختلفة في بقاع جغرافية متباعدة لا تعرف حدوداً. ويستفيض في شرح صراع الإمبراطوريات القديمة، مثل الفارسية والرومانية البيزنطية، وكيف هزم فيها من هزم، والتحولات التي طرأت على سورية الكبرى في ظل هذه الإمبراطوريات، وما تركته من آثار ما زالت قائمة حتى اليوم، فضلاً عن ثقافاتها وأساليب حكمها، والأباطرة السوريين الذين تولوه.
ويفرد أرمنازي فصلاً خاصاً للسلطنة العثمانية وتأثيرها العميق في المجتمع السوري، والثورة ضد العثمانيين والجمعيات السرية وقادتها وأبطالها وتأثرها بنمط الحياة السورية، وصولاً إلى هزيمة إسطنبول في الحرب العالمية الأولى، والثورات واقتسام الاستعمارين الفرنسي والبريطاني تركة «الرجل المريض»، واتفاق سايكس – بيكو الذي قسم بلاد الشام واستعمرها وأنشأ فيها دولاً تخدم مصالحه. لكن السوريين ثاروا على الفرنسيين واستطاعوا نيل استقلالهم ووضع حد لتقسيم بلادهم بالاتحاد بين الأكثرية والأقليات التي شارك أبناؤها في الثورة، وأجبروا باريس على الاعتراف بواقع وحدة الشعب والأرض، بعدما كان مخططها إنشاء ثلاث دويلات مفككة على أساس طائفي وعرقي، خاضعة لها. واستمر حلم الدولة السورية الحديثة، بعد زوال الاستعمار، باستعادة ما اقتطع منها، رافعة راية العروبة، فكانت تجربة الوحدة مع مصر عبد الناصر في أواخر خمسينات القرن الماضي، وقد انتهت إلى فشل لأسباب كثيرة أهمها عدم ارتكازها إلى أسس سليمة، والحملات الأوروبية والأميركية التي واجهتها، ووقوف بعض العرب ضدها.
وفي فصلين خصص أحدهما للرئيسين حافظ وبشار الأسد، اعتبر أرمنازي وصولهما إلى الحكم طبيعياً، نظراً إلى الواقع الاجتماعي الذي أفرز طبقة سياسية من الجيش، لعبت دوراً أساسياً في الانقلابات المتعددة، كان آخرها انقلاب الأسد الأب على اليسار المتطرف الذي كان متمثلاً بصلاح جديد، وهو ضابط في الجيش، ومجموعة من العسكريين والمدنيين. وهو في حقيقة الأمر، انقلاب على السلطة، وعلى حزب البعث، في الوقت ذاته، واستطاع أن يعيد توحيد الصفوف فأنشأ «الجبهة الوطنية التقدمية» التي ضمت الأحزاب القومية والحزب الشيوعي، تحت قيادة حزب البعث، وهو (الأسد) أمينها العام، أي أنه أصبح زعيم كل هذه الأحزاب مجتمعة تنفذ ما يقرره من دون نقاش. ويكتب أرمنازي عن هذه المرحلة وعما حققه أو أخفق في تحقيقه الأسد الأب. ودخول الجيش السوري إلى لبنان والخلاف مع عراق صدام حسين، وعن علاقاته العربية وتأثيره، وتحوّل سورية إلى دولة محورية في الشرق الأوسط. وعن حرب تشرين وترك السادات الجيش السوري يقاتل وحيداً على الجبهة، إذ كان هدفه «التحريك»، أي الانتقال من حالة اللاحرب واللاسلم إلى المفاوضات مع إسرائيل، بينما كان هدف الأسد تحرير الجولان حرباً.
ولا ينسى الديبلوماسي السوري الصراعات الداخلية في عهد الأسد الأب وسلوك المخابرات ورفعت الأسد، وظهور «الإخوان المسلمين» ومعركة حماه، وما خلفته من ضغائن طائفية ما زالت مستمرة حتى الآن، فضلاً عن الصراع مع إسرائيل الذي كان الهم الأكبر لـ «الرئيس الخالد»، وانحيازه في بداية الحرب الأهلية اللبنانية إلى الجماعات المسيحية ثم انقلابه عليها، واغتيال بشير الجميل الذي شكل هزيمة للمشروع الإسرائيلي في بلد الأرز. ثم وفاته وخلافته.
ويفرد أرمنازي فصلاً لعهد بشار الأسد الذي اختير رئيساً بتعديل دستوري لم يرضَ عنه عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي اللذان كانا من أعمدة الحكم في عهد والده، وعدد من القادة البعثيين. ويكتب عن علاقته بأوروبا، خصوصاً فرنسا، والضغوط الأميركية التي تعرض لها، خلال غزو العراق وبعده، وعن علاقاته بالقوى المحلية والمحاولات الإصلاحية في بداية عهده، و «ربيع دمشق»، وصولاً إلى انفجار الوضع عام 2011 والمأساة السورية المتواصلة منذ أكثر من ست سنوات.
بدأ أرمنازي كتابه بهذه العبارات المتفائلة لمارك تواين عن دمشق: «شاهدت عظام آلاف الإمبراطوريات وستشاهد آلافاً أخرى قبل أن تموت، وعلى رغم إطلاق أسماء عدة عليها، تبقى دمشق المدينة الخالدة»، وينهيه بتفاؤل أكثر خلاصته أن سورية ستخرج من مأساتها وتستعيد مكانتها ودورها، مستنداً في تفاؤله إلى «قصتها» التي رواها، وذلك بأسلوب ناقد ديبلوماسي افتقدناه منذ سنوات أو ضاع وسط هذه الزحمة من الرياء والكذب.
الحياة