صفحات الثقافة

القصة السوريّة: إمكانات محدودة لنقل صورة جحيم الداخل/ أمجد ناصر

 

 

باستثناء مؤسسات تابعة لوزارة الإعلام، وأخرى مملوكة لرامي مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد، ووسائل إعلام “الممانعة”، ليس هناك إمكانية لعمل صحافي حرّ، أو محايد، في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري. ناهيك أن يكون تابعاً لمؤسسات إعلامية عربية وأجنبية مصنَّفة بكونها “معادية”. لم يبق إلا القليل من المغامرين بأرواحهم بكل معنى الكلمة يغطون القصة السورية، سواء في المناطق التي يسيطر عليها النظام، أم في المناطق التي تعيث فيها المجموعات المسلحة والتكفيرية إرهاباً. فليس مسموحاً في هذه المناطق، على ضفتي المأساة، إلا للبروباغندا. إلا للإهزوجة التي تطرب الطرف المسيطر على الأرض. صحافة حرة. صحافة تسأل. صحافة تستقصي، كلا.

وإذا كانت الصحافة تتحول ضحية، في صراعات كهذه، في اليوم الثاني، فإن الصحافة، ووسائل الإعلام عموماً، وجدت نفسها، منذ لحظات الثورة السورية الأولى، في “بوز المدفع”. فليس في سورية خراطيم مياه ولا هراوات بوليس ووسائل لمكافحة “الشغب”، فلم يوطد النظام السوري نفسه على فعل كهذا. “الضرب في المليان” هو أول رد فعل على أي تحرك جماهيري مناهض. لو لم يكن الأمر كذلك لما وصلنا إلى هذه اللحظة التي تغرق فيها سورية بالدم والأسلحة، والمجموعات الإرهابية، والبراميل التي تتساقط من السماء، والاستخدام “العادي” و”الطبيعي” للغازات السامة.

من الأيام الأولى للثورة، طردت وسائل الإعلام العربية والأجنبية المعتمدة، وهي كانت خاضعة، أصلاً، لرقابة شديدة. لم تعد هناك وسيلة إعلامية مستقلة قادرة على رواية ما يجري في سورية من الداخل. لم يحدث في أي نزاع في العالم أن اختفى الصحافيون “المحترفون” مثلما حدث في ساحة الحرب السورية. فقد بدأ النظام بقتل الصحافيين الذين أرادوا أن يكونوا شهوداً على ما يجري في مدينة حمص.

المكان الأخطر

لم يعد النظام السوري اللاعب الشيطاني الوحيد ضد الصحافة والصحافيين في سورية بل ولدت من ضلعه “داعش” لتشاطره الجريمة، ولتتفوّق عليه في مشهديتها. “داعش” هي الوجه الآخر للنظام. وكل نظام في العالم يخلق، كما يبدو، معارضته على شاكلته إلى حد كبير، باعتبار المعارضة ردَّ فعل مشابهٍ لما تذهب إليه قوانين الميكانيكا. بسطت “داعش”، و”النصرة” (شقيقتها الصغرى)، سيطرتهما على محافظات سورية بأكملها ومارستا فيها قتلاً وتكميماً لأفوه المختلفين معهما. وقد رفع دخول “داعش” على خط الثورة السورية نسبة الصحافيين الذين قتلوا في التغطيات أو الاختطاف في الصراع السوري حتى بات الصحافي، خصوصاً إذا كان أجنبياً، يفكِّر ألف مرة قبل الذهاب إلى هناك.

هذا ما يجعل سورية المكان الأكثر خطورة على حياة الصحافيين في العالم. وقد نال هذا الوضع، في تقييم منظمة “صحافيين بلا حدود”، نسبة 77 في المئة من حيث الخطورة قياساً بأي مكان آخر ، حيث سجَّل العام الماضي مقتل 17 صحافياً “محترفاً” و7 ممّن يسمون بـ”الصحافيين المواطنين” الذين يغطون الأحداث لوسائل التواصل الاجتماعي، غير الذين اختفوا.

وإذا كانت سورية بلغت المرتبة 177 من أصل 180 بلداً من حيث الخطورة على حياة الصحافيين وحريات الصحافة، فهي لم تشكل قفزة درامية على ما كانت عليه “أيام العز”. فقد احتلت سورية المرتبة 143 عام 2002، على هذا الصعيد. والحال إن هذه القفزة، في معدل الخطورة في العمل الصحافي، ليست خرافية آخذين في الاعتبار ما آلت إليه الأوضاع في هذا البلد العربي المنكوب.

لا صحافة محترفة

أين هي الصحافة “المحترفة”، غير الأبواق الهاتفة، التي تغطي القصة السورية؟ لا تكاد توجد. هناك نطاق ضيق جداً لتحركها في بعض المناطق المحررة التي لا تخضع لداعش أو للنصرة. في سورية، من دون سائر بلدان النزاعات والحروب في العالم، يصبح عمل الصحافي موازياً للموت. الموت والصحافة في سورية يمشيان بجانب بعضهما البعض. ليس الموت في معارك الميدان ما يخيف الصحافيين وإنما الاختطاف ثم التعذيب والاختفاء في سجون النظام، أو الذبح أمام الكاميرا على يد “داعش”. هذا ما يخيف.

ولهذا صارت تعتمد وسائل الإعلام العربية والأجنبية على المواطن السوري الذي يغامر بحياته من أجل نقل صورة أو معلومة من هاتف جوال أو كاميرات صغيرة، غير أن التكنولوجيا مكّنتها من التواصل مع الانترنت، وبالتالي، بلوغ المنبر المراد أن تصل إليه.

في العام الماضي أوقفت بعض وكالات الأنباء والصحف الغربية التعامل مع صحافيين بـ”القطعة” من داخل سورية نظراً لعدم قدرة هذه الوسائل على تأمين حماية لهؤلاء الصحافيين. ولكنها بالمقابل لم تعد تستطيع أن ترسل مراسلين لها من مقراتها بعد تعرّض عدد من هؤلاء إلى الاختفاء أو الذبح. فكيف تغطي هذه الوسائل الإعلامية القصة السورية؟

الغالبية العظمى منها صارت تعتمد على كتابها ومراسليها، في جوار سورية، الذين يتلقون اتصالات من مصادر في الداخل السوري، أو من خلال ما تزخر به وسائل التواصل الاجتماعي التابعة للمعارضة السورية والنشطاء السوريين. هناك كمٌ هائل من هذه المعلومات التي توضع على شبكات التواصل الاجتماعي تستفيد منها وسائل الإعلام “التقليدية” من خلال “خبراء” يفحصون “المادة” السورية ويتأكدون من صدقيتها.

لا تكاد تنفرد شكبة تلفزة أو صحافة غربية بصور ومادة خاصتين بها من داخل سورية. فهي إما مشتراة من تلفزات عربية قادرة على العمل في المناطق المحررة، أو من خلال شبكات التواصل الاجتماعي التابعة للنشطاء السوريين.

وقد شكل أحد المدوّنين البريطانيين العاملين على المواد الصحافية السورية المبثوثة على وسائل التواصل الاجتماعي ويدعى بروان موسس (أو كان يسمي نفسه هكذا)، ظاهرة لافتة في هذا السياق، حتى إنه أصبح أحد المصادر التي تعتمد عليها منظمات حقوق إنسان، ووسائل إعلام غربية كبيرة. لم يغادر بروان موسس بلدته في وسط انجلترا. لم يزر سورية في حياته. ولكنه عرف بعض معاناة اللاجئين السوريين في بريطانيا. تعرَّض هذا الشاب البريطاني إلى اتهامات عديدة من قبل المتعاملين مع الانترنت، كما قال في حديث له مع “الغارديان” عندما كشف عن شخصيته الحقيقية (إليوت هيغنز)، منها العمل مع أجهزة أمنية.

من الصعب التحقّق ممّا يُبثّ على الانترنت، ومن يقوم بلي عنق الصور والحقائق والتلاعب بهما، وأية أجهزة أمنية تشتغل على ذلك، ولكنَّ هذا لا يمنع أن تكون شبكات التواصل الاجتماعي هي، الآن، الوسيط الأكبر للمادة الصحافية السورية. هناك تكمن شظايا الصور والحقائق والآلام والدمار الذي أحاق بالبلاد، ومن هذه الأكوام من الفيديوهات والأخبار والقصص التي ينشرها الناشطون السوريون كان هيغنز أول من أشار إلى استخدام النظام القنابل العنقودية، ثم لاحقاً البراميل المتفجرة.

لا شيء يغني عن العمل الصحافي على الأرض في سورية، ولكن إلى أن يحصل هذا، في حرية نسبية، سيظل النشطاء السوريون هم سادة الميدان الصحافي.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى