القصيدة الدمشقية ثكلى/ أحمد عمر
أنشد غياث “القصيدة الدمشقية” الشهيرة لنزار قباني في سهرة ألمانية بالإشارات والومى!
لابد من توطئة قبل الوصول إلى حدائق القصيدة الدمشقية “العجماء”!
يؤدي غياث إشارات كثيرة بلغة الصم والبكم، سعياً إلى الاتصال والتخاطب والحديث مع أصدقائه الجرمان، وهو يخلط الإنكليزية بتوابل مفردات جرمانية، ثم يهاجر إلى منفى الإشارات ومنازح الإيماء مضطراً، فهو يضم الإبهام إلى أخواتها الأربعة في حزمة حنان ويقبلها مشكلا قوساً بطيئاً وهو يرفع الأضمومة إلى فمه، ويطلق صوتاً مع القبلة دلالة على الحب وتعبيراً عن الإعجاب ببراعة طبخ نيكول، أو بجمال الطبيعة في برلين، أو حسن الأثاث في دارتها، أو يسرُّ لريتشارد إعجابه بجمال الألمانيات بحركته تلك مع غمزة عين وإطالة في القبلة و صوت تفجير مدفعي، فيفاجَأ ريتشارد بإسرار غياث الغريب والطارئ.. وينبهه إلى أنه اشترى اللحم من المحل التركي مطمئناً ضيفه السوري إلى اللحم الحلال، تفضلوا كلوا: فروج مع البطاطا وعصير برتقال وسلطة ومطيبات … يشرح غياث معجم حركات التعبير التي اخترعها هو زملاؤه في العمل، مقدماً مسرحية قصيرة في فن الإيماء .
فحركة رجفان اليدين هي تعبير عن الخوف والقلق. يدوّر بيده طاحونة خفية تعبيراً عن العمل والدأب، أو القيام بفعل مهم طارئ، أما جودة المتاع فيعبر عنها بحركة أخرى غير قبلة الأصابع المضمومة، وهي فتح ذراعيه على اتساعهما، ويشرح معنى الحركة العجماء:
الريفيون يحبون السيارات ذات العجلات العريضة، السيارة الأغلى والأحسن هي الأعرض عجلة، فيضحك ريتشارد ونيكول لغرابة العيار وعجب القياس، فجودة السيارات تقاس بعدد مكابسها وخيولها والقوة والسرعة والأمان والراحة، ثم جمع غياث معجم علامات الإيماء في فيلم تمثيلي قصير، يعبر به عنها كلها، حكاية المسرحية هي قدوم مخبر سوري فينتاب غياث خوف مع رجفان يد، تدوير لمطحنة، ثم فرح بالنجاة ثم قبلة لأصابع يده المضمومة عند عبور حسناء الشارع .
هناك إيماءة خرساء هدفها التعبير عن الخسران والخيبة، فهو يثني أصابعه الأربعة المتعامدة مع الإبهام ثم يلوي ذراعه وراء ظهره في قوس بطيئة، هذه حركة تقليد لما يفعله الطائر أبو منجل بمنقاره، فهو يأكل حتى التخمة ثم يذهب إلى البحر ويملأ منقاره ثم يحقن مؤخرته بالماء المالح حتى يسهّل تخمته إخراجاً.
تعلم الإنسان كثيراً من الكائنات مثل العنكبوت والضفدع، لكنه يفضل الثعلب. دوّر بيده برغياً وهمياً، كأنه يشده: هذه اسمها “طق البرغي” في اللغة الدارجة وهي تعبير عن الخيانة والغدر. أما حركة الأصابع المتعامدة الملوية فتعني الركوب على دراجة الشيوخ، وهي في ألمانيا المحتلة بالأمل: دراجات النساء، الشيوخ يلبسون الجلابيب وتناسبهم دراجات النساء، النساء في بلادي لا يركبن الدراجات. حتى الرجال يترفعون عنها ويفضلون السيارات، الدراجات في سوريا قليلة، وهي كلها صينية من طراز واحد خشن، وكانت لي دراجة شيوخ مهربة صادرها عناصر الحاجز ووضعوها تحت عجلات الدبابة!
تقول نيكول: شيء مؤسف.. السبب؟
لأنها دراجة شيوخ، دراجة جميلة، لم تكن السلطات تحب الجمال وتحاربه قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
ثم يحضُّ نيكول قائلاً: أرجو أن تحضي بناتي وزوجتي على تعلم قيادة الدراجة، فالشرطة الألمانية تعاقب رجلاً يردف خلفه زوجته، الدراجة لراكب واحد إلا إذا كانت ثنائية السائق.. منظر مضحك أن يردف المرء خلفه شخصاً في ألمانيا، أما في الصين فيمكن لخمسة أشخاص أن يركبوا دراجة واحدة أحادية السائق.!
سأل ريشارد: لا بد أن علم الإشارة والتمثيل مكين في سوريا!
ضحك غياث وقال: لا أبداً، العرب أبعدُ الشعوب عن فن الإيماء والتعبير بالحركة، فالعرب إعرابهم هو باللسان أو الجنان.. العربي: لسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُـؤَادُهُ. فَلَمْ يَبْـقَ إَلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالـدَّمِ. وقد قرأت بعضاً من تاريخ العرب فوجدت به ضعفاً مسرحياً بائناً، أو غياباً له، الظواهر المسرحية عند العرب نادرة، المنبر هو مسرح العرب، اللسان هو معرضهم، والسبب هو فائض التعبير اللغوي والبياني، حتى مسرحياتهم المعاصرة المقتبسة بشروطها عن الغرب يمكن الاستماع إليها عبر الإذاعة.
العربي لا يستطيع العيش في شروط مسرحية غربية، وهي حصائل العولمة، أما هذا الإيماء الذي قدمته لكم فليس سوى حصيلة حكم أبو منجل، العربي يسكت ولا يومئ، ولعله من خلق الأنبياء الذين بعثوا في ما تسمونه الشرق الأوسط، النبي لا يومئ و تابعوه أيضا.
تطور فن التمثيل في عهد الابن الجمهوري تطوراً كبيرا حتى بات صناعة ثقيلة، وأمست سوريا تصدر المسلسلات الكذابة، لكن هذا لا علاقة له بحركاتي، هي دعابات كنا نتسلى بها في مناوبات الليل، قتلنا التمثيل قتلاً، الحكومات العربية حولت البلاد إلى مشهد تلفزيوني وسينمائي، وجعلت الممثل بطلاً فاتحا. الرئيس هو أكبر الممثلين. هو بطل زنزانة التذاكر. هذا المجرم ابن المجرمين حرمنا من التعبير فأصبحنا نتكلم بالإيماء أو نقتدي بالقرد الصيني خوفا من الغوريلا الحاكم.
يعاند غياث في تعلم اللغة الألمانية وهي تذكره بأول حبة دواء تعلم بلعها بصعوبة، كان يحاول ثم يلفظها وكان أن تعلمها بالقوة والإكراه .. اللغة الألمانية ليست سهلة وثمت قول شائع ينص أن اللغة الإنكليزية يمكن تعلمها في شهر، الفرنسية في ثلاث، أما الألمانية فيعوزها ثلاثين سنة..
تعلمت بناته الألمانية بسهولة الماء على الصخر يجري، وانضمت إليهن الأم، أما هو فبقي أسير جروحه وأوجاعه، هل هو العمر، نصف قرن تحت حكم أقذر أهل الأرض وأنذل بني البشر. كرر ريشارد: أنّ غياث بارع في فن التمثيل، فقال غياث: هذا لم يخطر لي على بال، بل أنني أدعي النقيض، وأنّ الألمان ممثلون بارعون، فالموظف الألماني يشرح كل شيء بالحركة. السبب هو كثرة الوافدين الأجانب على ألمانيا، إيطاليون ثم أتراك، ثم سوريين. لسان حالهم يقول: على ألمانيا رايحين.. نازحين بالملايين.
أكثر الموظفين هم من القوارير، والمعلمات في مدارس اللغة يتعهدون الشرح بالحركة رقصاً أو تمثيلاً أو بتعابير الوجه: أنتم قوم ممثلون يا أخا الجرمان.
يأكل غياث بيده بعد الاستئذان، ويخطب خطبة في فوائد ومحاسن الأكل باليد فله فوائد عدة، وهو سنّة عربية:
تسأل نيكول وما هي هذه السنّة؟
أولها أن صاحب اليد ضامن نظافة يده. الثاني أنه يجس بإصبعه حرارة الطعام ويتراسل معه بحاسة اللمس. الثالث أن الأكل باليد أنسب من الأكل بالمعدن حتى لو كان ذهباً، فاليد تتجانس بسرعة مع الفم. الرابع مهم جداً لكني.. نسيته.
اقترح أن يقدم فقرة في فن الإيماء إسعاداً للجمهور، سيؤدي إشارةً أسماء أفلام عالمية، وعلى الجمهور التخمين والإجابة.
قلّد حركة قرد غاضب: فحزرت أنا اسم الفيلم فوراً : كينغ كونغ. ثم ماثل شراع سفينة مع عناق وهمي فعجزوا، هذا فيلم التيتانك. قلد لينين الذي يعني اسمه القلم، ثم لوح مودعاً، فسكتوا عجزاً: هذا فيلم “وداعاً لينين”. اقترح غياث أن ينتقل إلى فن العرب الأول والأخير، وهو الشعر، سينشد قصيدة من الشعر العربي المبحر في البحر البسيط.
بحور للشعر؟ سأل ريتشارد؟ كيف؟
لم تكن في بوادي العرب مياه، ففلقوا بحوراً من الشعر، الكلمات ماء والقصائد سفن وقلاع، هي قواعد موسيقية يا أبا الريش، اكتشفها الفراهيدي كما اكتشفت ماري كوري الراديوم، و كما اكتشف ماجلان رأس الرجاء الصالح والفارق هو أن الشعر يشع من كل شيء في بلاد العرب، ، هكذا سماها الفراهيدي: البحور، ولم يسمها الطرق أو القواعد أو القوالب .. المعاني هي جواهر ولآلئ ودرر كامنة في محارات الكلمات. أشهر الشعراء العرب هو امرؤ القيس ( تصحيفه: ماركوس) الذي كان يهوى صيد اللؤلؤ، بين سقط اللوى والدخول فحومل. والمتنبي الذي صاد كثيراً من الحيتان وجعلها تمشي على اليابسة. ونزار قباني الذي اقتصر صيده على حوريات البر. الشعر العربي هو مسرح العرب، وأنا عندما أمثل فإني أمثل حالة العربي المنفي الذي اضطر إلى لغة غير لغته، الإيماء منفىً وغربة. خلق الله العالم بكلمة ثم منحها العرب فضلاً عظيماً.. سأريك بعضاً من هذه الدرر:
فقال ريتشارد: غيرينه .. يعني بالشامي على راسي.
وقف غياث واستجمع أنفاس الحنين، وبدأ ينشد وينشج مستعيناً بفن الإيماء الذي أجبره عليه النزوح مثل نمر أعجم في اليوم الحادي عشر:
هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ…. إنّي أحبُّ وبعـضُ الحـبِّ ذبّاحُ، وأشار بيده إلى الأفق البعيد وإلى حبل الوريد.
أنا الدمشقيُّ لو شرّحتمُ جسدي…. لسـالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ؛ ودقّ بيده على صدره مثل كينغ كونغ يحتضر، ثم أشار إلى فواكه على المائدة، ثم أرخى سدوله على الحزن ليبتلي.
و لو فتحـتُم شراييني بمديتكـم…. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا. وكان الخشوع قد خيمّ على العائلتين، ولو وقعت إبرة على السجاد الوثير لسمعوا أنينها الباكي.
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا…. وما لقلبي –إذا أحببـتُ- جـرّاحُ؛ ودهن غياث بيده جرحاً بعيداً ليس له شفاء وهو يمسح فؤاده الموجوع.
ألا تزال بخير دار فاطمةٍ ( ووقف عند فاطمة، متمهلاً، مستعبراً، ثم شهق نفساً سكيناً، فيه بعضٌ من أقساط روحه) فاللحظ مستنفر والكحل صبّاح.
مآذنُ الشّـامِ تبكـي إذ تفارقني…. وللمـآذنِ كالأشجارِ أرواحُ. وأشار بيده إلى شجرة وحيدة في حديقة ريتشارد، فالتفتوا إليها جميعاً متعاطفين مع وحدتها ووحشتها في البرد.
للياسمـينِ حقـولٌ في منازلنـا…. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتـاحُ؛ و ران السلام على صوت غياث وهو يتذكر الشام، الفردوس المفقود.. وشعبها العَذبُ فياضٌ وملآنُ
طاحونةُ الشوق جزءٌ من طفولتنـا…. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ المجدِ فوّاحُ. ما للعروبـةِ تبدو مثلَ أرملةٍ؟…. تخدم بوتين وكسرى وقرداح؟ والحكم ماذا سيبقى من أصالتهِ؟…. إذا تولاهُ نصَّـابٌ ونكّاح؟ حملت وطني على ظهري فأتعبني…. ماذا من البيت يبقى حينَ …..يُجتاح؟
عندما انتهى، كانت دموعه التي حبسها في القصيد بسد مأرب، قد تحررت، فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، تلتها دموع البنات الثلاث الشاميات، ثم البنات الثلاث الألمانيات، ثم الجميع : نيكول وواخيم أبو نيكول الذي انضم إلى السهرة.. نهض ريتشارد وعانق غياث وقال معزياً: ستعود الشام يوماً كما عادت ألمانيا.
ثم قال متأثراً بلغات غياث وخواتيم أحاديثه المسك: إن شاء الله.
فضحك الحاضرون ومعهم الحديقة… بمباسم الربيع الخضراء اللبنية.
المدن