رشا عمرانصفحات الثقافة

القفز في الهاوية/ رشا عمران

 

 

قبل أيام، جمعتني ندوة ثقافية، في معهد غوته في القاهرة، مع الكاتبة الألمانية، أولريكه دريزنر، وهي روائية وشاعرة من أصل بولندي، لجأت عائلتها إلى ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، واستقرت هناك. ولدت أولريكه في ألمانيا، وعاشت فيها، وحملت جنسيتها ولغتها، لكن سيرة العائلة الهاربة التي كانت تسمعها يومياً في الأحاديث المنزلية، وسيرة الحرب بكل ما حدث فيها، بقيت عالقة في ذاكرتها الطفولية، وكبرت معها، مثلما كبرت رغبتها بالبحث والاستقصاء عما حدث تلك الفترة. هذه الذاكرة الاستقصائية والمتوارثة سجلتها أولريكه دريزنر في روايتها (سبع قفزات في هاوية العالم)، وتحكي فيها سيرة ثلاثة أجيال، الجد والأب والأحفاد، ثلاثة أجيال كل منهم عاش الحرب، وآثارها ونتائجها، على طريقته. قالت لي أولريكه، وهي تحدثني عن روايتها هذه التي لم تترجم بعد إلى العربية: “حاولت تقمص شخصية جدي الذي شارك في الحرب. تقمصت كل الشخصيات التي سمعت عنها، تقمصت الزوجات اللواتي ينتظرن أزواجهن المحاربين، تقمصت الأطفال الذين فقدوا آباءهم والأمهات الوحيدات، تقمصت الجرحى والمعطوبين والجثث والمقابر. كان يجب أن أشم رائحة الدم التي لم أعرفها، إلا من حكايات والدي، كي أفهم ما حدث، كان يجب أن أستعيد هويتي البولندية، أنا التي تعتبر أن لا هوية مستحقة بعد الهوية الإنسانية”.

في أثناء الحديث في الندوة المشتركة بيننا، تطرقنا، كلانا، إلى فكرة العيش في وطن بديل، وأثر ذلك على الكتابة، وكيف يمكن للأدب أن ينقل الحدث الحقيقي، وما الفرق بين الكتابة من الذاكرة المسموعة والكتابة من الذاكرة المعاشة اليومية. بالنسبة لأولريكه، لم تكن ألمانيا وطناً بديلاً، هي الوطن الذي لم تعرف غيره، بولندا لم تكن لها، كما فهمت، أكثر من بلد روائي بأحداث حقيقية، وهذه فكرة مترفة بالنسبة لي، أنا السورية الخارجة من وطني، قبل سنوات قليلة، والتي تعيش حاليا، في بلد تستعد كل لحظة لمغادرته، حيث لا يوجد أي تصنيف لها به، لا حقوق مواطنية لها، ولا هي لاجئة، ولا هي مقيمة، إذ لا يحق لها بظرفها الحالي الإقامة، ولا تعرف إلى أين يمكنها المغادرة، فيما لو طلب منها ذلك. تكتب أولريكه روايتها، وهي مستقرة وآمنة، ومستندة إلى مواطنيتها. لهذا، تقول إنها لا تكتب من أجل التوازن النفسي، ولا ترى في الكتابة علاجاً، بل تكتب لتفهم ما حدث، ولتقصه على الآخرين، بينما أكتب أنا من حالة فقدان الأمان الآني والمستقبلي، من حالة القلق والخوف، ومن العزلة التي ينتجها الفقد، ومن الروح التي تشطرها رائحة الدم الطري، ورائحة التراب وهو يضم يومياً عشرات الجثث الحارة. لا أكتب أنا لأفهم ما يحدث، ولا أملك ترف إيصاله إلى الآخرين شعرياً. أكتب بالضبط، لكي أشعر بالتوازن. الكتابة هي طريقتي الوحيدة، لكي أتخفف من كل الغضب الذي بي، ومن كل القهر الذي يمكنه أن يتلف أعصابي كل لحظة. الكتابة لي، حيث أنا الآن، هي بمثابة الحبوب المهدئة، أو الحبوب المضادة للاكتئاب. هي، تماماً، وصفة علاجية شخصية، تقيني من الانهيار، هي لي أولاً. الآخرون قد يأتون لاحقا، إذا وجدوا فيها ما يمس وحشتهم وعزلتهم وخوفهم، تحتاج أولريكه دريزنر إلى أن تتقمص شخصيات عرفتها منذ البعيد، أو سمعت بها، لتكتب عما حدث ذات يوم في بولندا. وسيحتاج كتاب سوريون سيأتون، بعد عقود كثيرة، للتقمص ذاته، لكي يفهموا ما حدث، وينقلوه إلى آخرين، ربما لم يسمعوا به يوماً. أما الآن، فيحتاج كتاب سورية، وأنا أقلهم ربما، كوني لم أعش تفاصيل الحرب اليومية، يحتاجون لأن يتخلصوا من تشبث الحدث اليومي بهم، ومن ملاحقة شخوصه الحقيقيين، ومن التصاقهم بالذاكرة وبالروح وبالجلد وبالنوم وبالكوابيس، نحتاج كل هذا لكي نبقى على حافة التوازن، ولا نقفز في الهاوية.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى