بشير البكرصفحات سورية

القليل عن سورية/ بشير البكر

 

 

قبل أكثر من عام، فاجأني صديق سوري بقوله إنه لم يعد يستطيع متابعة الأخبار المصورة عن سورية، وإنه لكي يحصّن نفسه ضد الإحباط، الذي تشيعه الأخبار، ابتعد عن نقاش الشأن السوري، ولم يعد يدخل في جدال مع أحد حول مآلات الوضع، لأنه كلما اعتقد أن السوء الذي وصل إليه الموقف بلغ القمة، تأتي الأحداث، في الأيام اللاحقة، بما هو أكثر سوءاً بدرجات، حتى صار السوريون ينتظرون معجزة تنتشلهم من الهاوية التي لا قعر لها.

ظننت أن الوصفة، التي حدثني عنها الصديق، يمكنها أن تصبح ممكنة بالنسبة إليّ، أنا البعيد عن الجغرافيا السورية منذ حوالى ثلاثة عقود، وشرعت في تطبيق بنودها بالتدرب على الابتعاد عن مشاهدة الأخبار المصورة. واستلزم ذلك جملة من الاحتياطات الإضافية، حتى صرت مثل تارك السيجارة، الذي يجد نفسه يبتعد عن عالم ليس سهلاً عليه أن ينسحب منه، لأنه يشكل قرابة نصف يومياته الحياتية.

سرعان ما أصابني اكتئابٌ يتجاوز، في حدته، ذلك الناجم عن متابعة الأخبار المصورة. أحسست، بعد أيام قليلة، أنني أخون البشر المقطّعة أوصالهم، والدمار الذي يلحقه الطيران الحربي بالأحياء السكانية، والأذى الذي تلحقه البراميل المتفجرة بالفقراء، الذين لم يجدوا طرقاً للهرب، فمكثوا في أماكنهم ينتظرون المعجزة، وهم يرددون “ما إلنا غيرك يا الله”.

من يستطيع نسيان صورة تلك المرأة العجوز، التي فقدت 18 فرداً من عائلتها، ولم يبق لها سوى حفيدة عمرها ثلاث سنوات؟ في بعض الأحيان، يأخذني الفضول إلى تصفح الصور في صفحات بعض الأصدقاء السوريين على “فيسبوك”، فأتوقف أمام صور شبابٍ سقطوا شهداء، أو اختفوا في ظلام سجون الأسد. ولا يحتاج المرء إلى أن يكون حساساً حتى يتألم أمام تقاسيم وجوه هؤلاء الحالمين، الذين اختفوا بطريقة أو بأخرى. هؤلاء ذهبوا في رحلة صعبة، نيابة عن البقية، التي تبحث عن حلول فردية، في لحظة إحباط عام، لحظة تفقد فيها الثورة هدفها الحقيقي، وتتبدد في الزواريب، ويقفز فوق ظهرها حرامية وأوغاد وتجار دم وأمراء حرب.

لم تكن سورية تشغل الكثير من يومياتي الشخصية، قبل الثورة، وكلما كنت أضعها أمامي وأنخرط في التفكير بها، أجدني أسرع لأطوي الخارطة. كنت أهرب منها بإحساس من خرج ولن يرجع مرة ثانية. ولكن، حين قامت الثورة، عشتها مثل أي سوري أحس بأن أغلاله تكسرت فجأة، ووجد باب الزنزانة مفتوحاً، وليس أمامه سوى درب الحرية.

حين نزل السوريون إلى الشوارع، أحسست بأن العدالة انتصرت لهم، وأنهم يستحقونها عن جدارة. ذلك الزخم الكبير من درعا إلى حمص ودير الزور صنع لي أحلاماً جديدةً، لم أحلمها سابقاً، وفتح رئتيَّ على هواءٍ لم أعهده، بل صرت أحس تجاه سورية والسوريين بما لم أكن أحسه من قبل، إحساس من يكتشف عالماً جديداً، والفضل في ذلك يعود إلى حالة الفرح العارم بالثورة واسترداد الكرامة المفقودة، التي داستها أجهزة آل الأسد على مدى جيل وجيل.

حين بدأت الثورة تنتكس، بسبب القتل ودهاء أجهزة الأسد وتآمر الإيرانيين والروس عليها، شعرت كأي سوري رأى فيها فرصة المصالحة مع النفس، أنها تبتعد، وتسير في طرقات وعرة، وبدأت تتشكل على حوافها عوالم شاذة وغربية، وأخذ يتصدر الواجهة نفعيون ولصوص ومقاولون.

في اللحظات الحرجة، التي أحسست فيها أن الثورة جرى اغتيالها، أو سرقتها، راودني شعور غريب، أنا الذي اعتبرت نفسي عابراً للبلدان. يأخذني الحال بعيداً، وأنا أتأمل الملايين، التي هجّرها القتل، ولم تعد تملك من حاضرها شيئاً.

شعوري، اليوم، أني فقدت بلدي، ذلك الذي لم يكن موجوداً قبل الثورة.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى