القول الأصيل.. في التّعذيب بالتّشكيل/ عماد فؤاد
طيف التنوين
يحدث أن تفتح رابطاً لمادة تريد أن تقرأها، دراسة عن شاعر أو عن مجموعة شعرية أو عن رواية، ترجمة أدبية لنص شعري أجنبي مترجم، أو قصيدة شعر عربية منشورة في إحدى الصحف أو المجلات أو المواقع الالكترونية، فتصدمك الصفحة الالكترونية بنص لغوي يحتاج ميكروسكوباً كي تفرّق بين الفتحة والكسرة فوق حروفه متناهية الصغر، بين الضّمة والتّنوين، بين الساكن والمتروك بدون تشكيل، فتعتدل في جلستك، متأهباً لهذه الجيوش الجرّارة من حركات التشكيل المتتابعة، التي تلي بعضها البعض دون رحمة بك أو رأفة بعينيك، وتبدأ في القراءة بعدما كَبَّرت حجم النص على شاشة حاسوبك إلى الحجم المناسب لعينيك الكليلتين، متسائلاً – بينك وبين نفسك – حول ضرورة وضع علامة السكون فوق حرف اللام في ألف لام التعريف مثلاً؟ وهل من ضرورة حقيقية في تشكيل كل حرف في الكلمة المكتوبة إن كانت لا تحتمل سوى قراءة واحدة وحيدة، ما هذا الولع بالتشكيل الذي لا يفيد شيئاً سوى إبعاد أي قارئ طارئ عن النص المنشور بهدف وحيد هو: أن يقرأ؟!
تعلَّمنا: “أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد عندما كان واليًا على البصرة (45- 53هـ) أن يبعث إليه ابنه عبيد الله، ولما دخل عليه وجده يلحن في كلامه، فكتب إلى زياد يلومه على وقوع ابنه في اللحن، فبعث زياد إلى أبي الأسود الدؤلي يقول له: “إن هذه الحمراء (أي الأعاجم) قد كثرت وأفسدت مِن ألسنة العرب، فلو وضعت شيئًا يُصلح به الناسُ كلامَهم، ويعربون به كتاب الله”. فاعتذر أبو الأسود عن القيام بتلك المهمة، فلجأ زياد إلى حيلة؛ بأن وضع في طريقه رجلاً وقال له: “إذا مرّ بك أبو الأسود فاقرأ شيئًا من القرآن، وتعمّد اللحن فيه”. فلما مرّ به قرأ قوله تعالى: “أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ”، بجرّ لام (رسوله)، فشق ذلك على أبي الأسود، وقال: “عزّ وجه الله أن يتبرّأ من رسوله”، وقال لزياد: “قد أجبتك إلى ما طلبت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن”، واختار رجلاً من عبد القيس، وقال له: “خذ المصحف، وصِبغًا يخالف لون المداد، فإذا رأيتني فتحت شفتي بالحرف فانقط واحدة فوقه، وإذا كسرتها فانقط واحدة أسفله، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف (أي أمامه)، فإذا أتبعت شيئًا من هذه الحركات غنة (أي تنوينًا)، فانقط نقطتين”.
هكذا تعلَّمنا، لكننا اليوم صرنا نجد أحدهم يترجم لنا نصاً شعرياً، للفيلسوف والشاعر الفرنسي “جورج باطاي – Georges Bataille” (1897-1962)، فيكتب ترجمته على هذا النحو: “أَيُّهَا الْمَوْتُ الْأَسْوَدُ أَنْتَ خُبْزِي / آكُلُكَ فِي الْقَلْبِ / أَلْفَزَعُ رِقَّتِي / أَلْجُنُونُ فِي يَدِي”، وهو ما جعلني أتساءل بصفاء نية: ماذا لو كتب مترجمنا الكريم ترجمته هكذا ببساطة: “أيها الموتُ الأسودُ أنت خبزي / آكُلُكَ في القلبِ / الفزعُ رِقَّتي / الجنونُ في يدي”؟! ألن يكون أمر القراءة أسهل وأيسر على القارئ المسكين الذي يريد الإطلاع على النص المترجم؟ ألن يوفر الكثير من الجهد والوقت في الكتابة والقراءة ويعمل على إيصال الفكرة بطريقة أقل مشقة وأكثر سرعة؟ ثم ما هي ضرورة أن أضع همزة فوق الألف في “ألف لام” التعريف بكلمتي “أَلْفَزَعُ” و”أَلْجُنُونُ”؟! هل من طريقة أخرى لأنطق بها حرف الألف في لام التعريف؟ هل سأنطقه مضمومًا أم مكسورًا؟ ألن تقرأ “أَلْفَزَعُ” كما ستقرأ “الفزعُ”؟
يبدو لي أن هذا الولع بالتشكيل يجتاح الكتابات والترجمات المغاربية – إلا من رحم ربي – أكثر مما يجتاح الكتابات المصرية أو الشامية أو العراقية أو الخليجية، ربما لولع مبالغ فيه بتشكيل كل حرف في اللغة المكتوبة إضفاء لقداسة ما عليها، وهي لغة ليس بمقدسة و”.. لا هم يحزنون”..
الرحمة أيها المترجمون، الرحمة أيها الشعراء، الرحمة أيها النقاد، الرحمة أيها الكتاب، دعونا نقرأ جهدكم في سلاسة ويسر..
يرحمكم من يرحم!
المدن