مراجعات كتب

القومية بوصفها نتاجاً ثقافياً

 

 

مراجعة : د. عفيف عثمان

[ الكتاب: الجماعات المتخيلة، تأملات في أصل القومية وانتشارها

[ الكاتب: بندكت اندرسون

[ المترجم: ثائر ديب

[ الناشر: المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات بيروت 2014

يصف عزمي بشارة، المفكر العربي الفلسطيني، عمل الأكاديمي المختص في الدراسات الدولية والآسيوية، أندرسن، في المقدمة التي دبجها له بأنه عمل بحثي تخصصي أمين، يحمل رؤية نظرية ثاقبة، ولا يمكن الإستغناء عنه في دراسة القومية والهوية في العصر الحديث. وقد صدر الكتاب في طبعة أولى العام 1983، باللغة الإنجليزية، و راجعه الباحث ونقحه وأعاد نشره، وتعتمد ترجمة ثائر ديب الطبعة المؤرخة العام 2006 .

أتى البحث في سيّاق زمني اشتدت فيه النزاعات المسلحة في الهند الصينية بين فيتنام وكمبوديا والصين خلال الأعوام 1978 1979، وقد تنبأ أندرسن باحتمال «ألا يبقى من إتحاد الجمهوريات السوفياتية الإشتراكية مع مطلع الألفية الجديدة سوى الجمهوريات»، وبالتأكيد هو يعزو السبب الى «القومية» الموصوفة بـ«منطق الجماعات المتخيّلة». وكل ثورة، في زعمه، عرّفت نفسها بمفردات قومية مستندة الى إرث الماضي. ويستند في ذلك الى رأي المؤرخ أريك هوبسباوم :«لقد نزعت الحركات والدول الماركسية الى أن تغدو قومية، لا في الشكل وحسب، بل في الجوهر أيضاً، أي أنها نزعت الى أن تغدو قومية الفكر والمذهب. وما من شيء يشير الى أن هذا الإتجاه لن يتواصل»، إذاً، فلا نهاية لعصر القومية كما يتمنى بعضهم، والمشكلة هي في التعريف الجامع والمانع للأمة وتلازمها مع الهوية والقومية. ومهمة أندرسن هي في تقديم تأويل مقنع أكثر للقومية حيث يعتبرها «نتاجات ثقافية من نوع محدد».

ولهذا الغرض يبدأ بعرض تعريفات متنوعة لها، ويقترح إن «الأمة هي جماعة سياسية متخيّلة، حيث يشمل التخيل أنها محددة وسيّدة أصلاً»، وعنده إن تضحيات البشر الجِسّام في سبيلها يعود، في المقام الأول، الى الجذور الثقافية للقومية، وفي مقدمها النصب التذكارية، مثل ضريح الجندي المجهول. ويفسر الباحث هذا التعلق بالتخيلات الدينية ولا سيّما الموقف من الموت، وغايته القول إن ظهور القومية في القرن الثامن عشر ما عنى انفكاكها أو إبطالها مرجعيات ظهرت هي نقيضاً لها، بل ارتبطت بـ«المنظومات الثقافية الكبرى». ويحصر الباحث اهتمامه في اثنتين: الجماعة الدينية والمملكة السلالية، وينتهي الى القول إن إمكانية تخيل الأمة لا تنشأ تاريخياً هي ذاتها، إلا حين تفقد ثلاثة تصورات ثقافية سطوتها على عقول البشر: الأول، امتلاك لغة بعينها قادرة على النفاذ الى الحقيقة الأنطولوجية، الثاني، انتظام المجتمع في شكل تراتبي (ملوك، حكام…)، والثالث، تصور الزمن على نحو لا تمييز فيه بين التصور الكوني الشامل والتاريخ. ويعود الباحث الى محاولة شرح شعبية «الأمة» ورواجها الكبير، ويعزوه بداية الى الرأسمالية، والى أحد مشاريعها المهمة في نشر الكتب بالاعتماد على الطباعة، بهدف خلق وعي جديد، من ضمنه الوعي القومي، وذائقة للآداب والفنون. ومن ثم أتى الإصلاح المضاد، ومن ثمراته قيام دول غير سلالية، وكان لانتشار اللغات المحلية أن يفتت الامبراطوريات المتمركزة حول اللغة اللاتينية كلغة مقدسة.

ولا يقصر أندرسن بزوغ الجماعات المتخيّلة على هذه العوامل، ولكنه يتحدث عن تفاعل يكاد يكون عارضاً بين: نظام إنتاج وعلاقات إنتاجية (الرأسمالية)، وتكنولوجيا إتصال (الطباعة)، وقدر (مع تشديد من جانبه على الكلمة) متمثل بالتعدد اللغوي البشري، والى هذه المعادلة تُنسب الأمم الحديثة. وهو لا يتمسك كثيراً بالتصورات الرائجة عن أصول القومية عند الأوروبيين، ويأخذ قيام الدول الأميركية الجديدة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع، شاهداً على قصور عامليّ اللغة وسعي الطبقات الدنيا للحياة السياسية. وكذلك يمثل شعب الكريول المثل البارز على الوعي القومي المبكر، وترد الدراسات ذلك الى سيطرة اسبانيا المركزية الشديدة، وعوامل ثقافية كانتشار أفكار التنوير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ويميل الكاتب الى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية، ولكنه يعود ويتحفظ معتبراً أنها لا تستطيع مع الأسباب الأولى الآنفة الذكر «أن تخلق بمفردها ذلك النوع أو الشكل من الجماعة المتخيّلة.

والحال، يرى أندرسن إن الحركات القومية في أوروبا من العام 1820 الى العام 1920 تميّزت بسمتين: أهمية اللغة القومية، والعمل إنطلاقاً من إطار قديم سعياً لتشكيل «الأمة»، وتكفي هنا الإشارة الى مقولة يقتبسها الباحث من توم نايرون، الاسكتلندي صاحب كتاب «تفكك بريطانيا»، لندرك الصلة المعقودة مع الماضي:» كان على انتيلجنسيا القومية الجديدة المتحدرة من الطبقة الوسطى أن تدعو الجماهير الى التاريخ، وكان من الواجب كتابة بطاقة الدعوة بلغة يفهمونها»، وعنت الدولة القومية دولة لأصحاب اللسان الواحد. ويدين قيام «القوميات الرسمية» بظهوره في القرن التاسع عشر الى ظهور القوميات اللغوية الشعبوية، وقد أزالت أثناء تقدمها ذلك التبايّن بين «الأمة والمملكة السلالية»، اذ كانت الأمم «تبزغ في قلب الأمبراطوريات ذاتها». ومنذ العام 1922، أي مع انتهاء حكم الملوك والخلفاء غدت الدولة الأمة هي المعيار الشرعي الدولي، وقد عبرت عن نفسها في «عصبة الأمم». وبعد الحرب الكونية الثانية، قامت دول جديدة في آسيا وإفريقيا مازجة بين القومية الشعبية والقومية الرسمية، ومتحدرة من الدولة الكولونيالية.

إن مطالعة أندرسن عن القوميّة وعن الجماعات المتخيّلة هو بقصد شرح أسباب الحرب بين الرفاق الإشتراكيين، فهؤلاء وصلوا الى السلطة وورثوا الدولة وما تمثله من مصالح. ووجهة نظره للحد من هكذا نوع من الحروب إنه يجب التخلي عن بعض الإعتقادات (يسميها خرافات) التي تقول «إن الماركسيين ليسوا قوميين»، أو «إن القومية مرض من أمراض التطور التاريخي الحديث»، ويدعونا الباحث كي نبذل وسعنا لنتعلم من «تجربة الماضي الواقعية والمتخيّلة».

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى