الكاتبة مها حسن.. بناء عالم روائي سحري
رولا حسن
تميزت تجربة مها حسن ومنذ إصدارها «سيرة الآخر – اللامنتهي» 1995- دار الحوار – اللاذقية بميلها صوب التجريب وإلحاحها على الجانب المعرفي في الرواية،
فكانت روايتها الآنفة الذكر عبارة عن نص مفتوح يحاول الإحاطة بعالم الآخر حيث يمضي السرد مستعيناً بالتأملات والشذرات وقد شاع هذا النوع من الكتابة بتأثير المناهج النقدية والمعرفية الجديدة واللغوية فكان أن أنتج سرداً أنثوياً لا ينقم على الرجل ويعلن الحروب ضده وإنما يلتفت إلى تعرية الشروط التاريخية والاجتماعية التي تقهر المرأة وإدانة هذه الشروط ومن ضمنها الرجل وفي هذا الإطار تندرج أيضاً رواية «غالية خوجة»- برزخ اللهب: رواية القصيدة الأخرى -.1999م.
ثم أصدرت روايتها الثانية «تراتيل العدم «بيروت 2009 وتلاها «حبر سري»2010 وأخيراً بنات البراري»2011م .
تراتيل العدم
في «تراتيل العدم» تتابع مها حسن مشروعها التجريبي والمعرفي في الرواية ولربما تعد تراتيل العدم من أكثر الروايات المبنية على الموضوع المعرفي على التوازي مع الاشتغال ببراعة على الشكل الفني للرواية، فنحن وبكل بساطة أمام نص جديد على المستوى التقني بالنسبة للرواية بشكل عام والنسوي بشكل خاص إذ يتعدد الرواة، ففي المقدمة التي تبين فيها مشاركتها لشخصيات روائية في انجاز الرواية وحيرتها بأن توقع الرواية باسمها «في البدء كانت هذه الرواية لجدار ثم انتقلت كتابتها إلى جوزفين ولأسباب محض فنية أنجزت العمل باسمي أنا …..» وبالرغم من ضبابية وجود تلك الراويات ربما رغبة منها بأن توقع القارئ في الشك..الشك الفاعل والمؤثر والذي يدفعه للبحث عنهن في الرواية وملاحقة حكاياهن وأساطيرهن.
ولكنها رغم ذلك تبقى وفية لحيلتها في خلق رواة عدة للرواية عندما تسلم السرد من جوزفين إلى جدار أو إلى نفسها ولكن اللافت هنا أن أسلوب السرد يبقى واحداً وكأنها تريد أن تقول لنا إنهن صور متعددة لراوية واحدة وهذا بدوره يعكس أمراً مهماً هو غنى الشخصية القادرة على الإفصاح وبكل هذا الدفق عن دواخل النفس البشرية مدعوما بجانب فكري عملت عليه بجد.
الكاتبات الثلاث يسبحن عبر أزمنة عديدة تبدأ في لحظة النشوء الأولى ولا تنتهي عند فوكو حيث تتكئ الكاتبة في روايتها على كم هائل من المنجز الإنساني الفلسفي والميثيولوجي فهناك الآلهة الأم «أرض» وزرادشت بأناشيده، كذلك يحضر سقراط وفوكو وفرويد وهذا الحشد الفكري الهائل لم يكن استعراضياً أو اعتباطياً وإنما لعب دوره في نسيج الرواية وحيلها التي تحاول جذب القارئ بطريقة يكون فيها قادرا وبعد قراءة الرواية على إنتاج ذاته من جديد.
حل اللغز
اختارت في روايتها أسطورة النشوء الأولى للمجتمعات البشرية وهذا أمر فرض عليها اعتماد الحكاية لإيصال رؤيتها للموضوع فهي مدركة تماماً أن الحكاية هي أبسط أشكال السرد ولهذا أوغلت عميقاً لتقدم الحكاية وبشكل مختلف يتناسب مع الفكرة التي عملت على طول الرواية على كشفها وهي «حل اللغز الذائع الصيت»
استخدمت الكاتبة المسرحة وذلك في الفصل الذي تدخل فيه شخوص الرواية بمن فيهم الرواة الثلاثة إلى سرداب مظلم يتحدث فيه الأموات والأحياء وتلعب الكاتبة دور المسجل للأقوال وهنا نلمح مشاهد تعكس بذكاء الصراعات النفسية التي يعيشها الإنسان مع نفسه أثناء تفكيره بكل الصيغ والأسئلة التي تسبب له قلقاً وجودياً ولا تشفي كل الإجابات عن تساؤلاته المختلفة والتي في كثير من الأحيان لا يملك الجرأة للتصريح بها إلا داخل ذاته… ذاته ذلك السرداب المظلم الخاص به.
لا يبدو الزمن في الرواية واضحاً فنحن بداية أمام مكان يعكس شطحات موغلة في القدم أحياناً وأحيانا يوغل في الراهن فلا يمكن القبض عليه أو تحديده وإنما تترك الكاتبة خيوطاً واهية يمكن أن تساعد على المتابعة والتقصي والبحث عن بوابة محددة للدخول إلى الزمن في الرواية الزمن الذي يبدو ملتفاً ودائرياً حيث يقود فيه الحدث الأخير في الرواية إلى بدايتها لتبدو نهاية الرواية وكأنها بدايتها علماً أن الرواية ومنذ بدايتها لا تسير وفق خط واحد وإنما تتشظى في اتجاهات مختلفة ومع ذلك تبرع الكاتبة بجمعها ودفعها باتجاه الحدث الأخير للرواية.
حبل سري
تتابع الكاتبة ولعها بالتجريب مشتغلة على الجانب المعرفي بالتناسق مع الجانب الفني تبدأ الرواية مع صوفي بيران التي تعيش في باريس وتفتقد الأمان وتعاني من وحش الوحدة بالرغم من أنها متزوجة من رجل يحبها لنكتشف وبعد صفحات قليلة أنها ليست سوى حنيفة التي هاجرت من حلب إلى باريس وغيرت اسمها إلى صوفي بيران حنيفة التي عاشت انتكاسات كثيرة مؤلمة في حياتها بدأت حين طلق والدها أمها ومن ثم يتخلى عنها أهلها وتتكسر آمالها في الحصول على الأمان والحب والمأوى والوطن وبعد سلسلة من الآلام تنتقل حنيفة من مدينة إلى أخرى وتنتزع من المكان التي كانت تشعر فيه بالأمان والانتماء وتعيش في بيت أهل والدتها حيث تفقد هناك كل شيء الحب والأمان والعائلة والانتماء تعيش مستلبة وغريبة ويتعاظم هذا الإحساس يوماً بعد يوم ولا ينقذها سوى عنادها على متابعة دراستها فتترك البيت وتعيش مع عمتها، وحين تنجح في البكالوريا يختار لها أهلها فرعاً لا تحبه فتهرب إلى اليونان حيث أخوها غير الشقيق إدريس ومن هناك تفر إلى باريس وهناك تغير هويتها واسمها وتسعى للاندماج في المجتمع الجديد تترك الماضي وراءها بينما يعتبرها أهلها خارجة عن أعرافهم وتقاليدهم فينبذونها فلا تلتحق بكلية الطب التي كان يفترض أن تدرسها في باريس بل تبدأ البحث عن حياة جديدة تثبت فيها نفسها التي تنقسم في معمعة البحث عن الأنا التي تعددت وكل واحدة منها تنفجر لتلد شخصيات متعاركة في الداخل لا تصدر سوى الفوضى والضجيج عبر الموسيقا الصاخبة والقيادة المتهورة للسيارة تصادق من تشاء وتعيش حياة منعتقة من كل القيود تمارس أفعال تعويضية لكنها رغم هذا كله لا تفلح بالانسلاخ كلياً من ماضيها والشخصية التي تسكنها وتدفعها إلى تصرفات لا ترضيها لكنها تجد نفسها مرغمة على فعل ذلك في محاولة بائسة للتبرؤ مما يثقل كاهلها من وجع التيه والضياع.
ترتبط صوفي بآلان وهو روائي فرنسي تعيش معه في شقته أحياناً وتمضي معظم أوقاتها في الترحال وكأنها تهرب من مواجهة ذاتها لكن ثمة حبلاً سرياً يربطها بما كان وبما سيكون هذا الحبل.. يربطها بكل الأماكن التي هربت منها وبالأخرى التي تهرب إليها وأيضاً يربطها بالمستقبل المجهول، وحتى بعد موت صوفي بحادثة سير أليمة تستكمل ابنتها باولا سيرتها المضطربة والناقصة كما ترث منها روايتها التي بدأت بكتابتها والتي ينبغي لها أن تكملها أو هذا على الأقل ماشعرت به تعاني باولا قلق الانتماء أيضا فتستبطن شخصية قلقة وثائرة في الوقت نفسه فبا ولا لم تكن نتاج علاقة صوفي بآلان وإنما كانت نتاج علاقة صوفي بسيريل المدمن الذي كانت تكرهه لكنها غرقت معه في علاقة مجنونة.. كانت باولا نتيجتها باولا ترفض علاقة الأبوة بينها وبين سيريل وتعد آلان والدها الحقيقي تعيش في كنفه وهو تالياً يعاملها كما لو أنها ابنته الحقيقية، تقود المصادفة باولا للتعرف إلى عمة أمها حنيفة التي جاءت إلى باريس للعلاج من مرض خبيث حيث تتعافى بعد تعرفها إلى باولا تكون المصادفة المنطلقة من تكهن عرافة مغربية هي المحرك الرئيسي لكثير من الأحداث في الرواية، تسافر باولا مع حنيفة إلى سورية في محاولة لاكتشاف ما كان يؤرق صوفي وهناك تطّلع على حياة الأكراد وما يؤرق حياتهم كونها تنتمي إليهم عن طريق أمها كما تكتشف شرقاً بائساً لا يمت إلى ألف ليلة وليلة، حيث تقابل بالرفض من جدها وجدتها، هناك تتعرف إلى الحياة الحقيقية من وجهات نظر مختلفة وتتعرف إلى قصص كثيرة راح ضحيتها الأبرياء في خضم الانسياق وراء الأعراف القاتلة وتروي قصص الازدواجية التي يعيشها الشرق ولا سيما المثقف فيه.
تعدد الأزمنة والأجيال
ترتبط باولا بابن خالتها روني بعد قصة حب تحمل على إثرها بطفلة لكنها تفشل بالاندماج في المجتمع الشرقي ولا سيما الحلبي فينتهي بها الأمر حائرة وهاربة إلى باريس مؤثرة الحرية على الحب والرواية والقرابة لتضع هناك ابنتها إلزا في ظروف أفضل، كأنما الرواية تحاول مد جسور بين الشرق والغرب عبر شخصيات نسائية «صوفي».. باولا شخصيات تحاول استعمار الآخر عبر الجسد فـ «صوفي» كما باولا تنتقل في الغرب من رجل إلى آخر وكأنما تريد الانتقام من الغرب الذي استعمر بلادها وأهلها ورماهم في حضن التخلف والتهميش والإقصاء وكأنها أي الشخصيات هي المسؤولة عن قلق الانتماء إلى المكان في هذا العالم فترث التخبط والعيش تحت سطوة الأسطورة حيث تكون كل واحدة منهن الخيميائية التي تريد أن تضاهي الخيميائي الحقيقي، تمارس الحياة الغربية كما لو أنها من هناك لكن الجانب الشرقي يبقى هو المشرق فيها ورغم كل ذلك تبقى متخبطة بين الشرق والغرب مرتبطة بحبل سري إلى كل منهما حيث لا تستطيع فكاكاً من أي منهما.
اعتمدت الكاتبة وكما في روايتيها السابقتين على أزمنة متعددة وأجيال تتوارث الهموم والوساوس والقلق وذلك يبدو واضحا في تسلسل الشخصيات كما في أحداث الرواية لكن اللافت هنا تحرر الرواية من الضغط الفلسفي والفكري الذي غرقت فيه في روايتها «تراتيل العدم» قدمت الكاتبة وبحرفية عالية أمكنة وشخصيات متنوعة ومتضادة وسبرت المجتمعين الغربي «الباريسي» والشرقي» السوري الحلبي بموزاييكه المتنوع والمتناغم في إيحاء منها إلى التيه الذي يبقى واضحاً وفاعلاً ومستمراً بين الشرق والغرب، فالشرق يبقى شرقاً والغرب غرباً وثمة حبل سري يربط بينهما يجعل كل منهما مثار جذب للآخر.