الكاتب السوري ياسين الحاج صالح يتحدث إلى “سكايز”: اختطاف رزان وسميرة ووائل وناظم هدية لا تقدر بثمن للنظام
عبدالله أمين الحلاق
لم تمضِ فترة طويلة على وصول الكاتب والمثقف السوري المعروف ياسين الحاج صالح إلى تركيا، حتى تلقت الصحافة والإعلام السوري الحر المرتبط بالثورة ضربة أليمة تمثلت باعتقال زوجته الناشطة سميرة والناشطة رزان زيتونة وزميليهما الناشطين ناظم الحمادي ووائل حمادة، العاملين في مركز توثيق الانتهاكات في مدينة دوما. هكذا، وإلى جانب ملاحقته وتخفّيه عن أعين النظام السوري والمجموعات الإسلامية المتشددة واعتقال زوجته وأصدقائه المقربين، كان ياسين، ونحن معه، على موعد مع الأمل الدائم وشحذ الهمم وتطليق اليأس القاتل للسوريين وسط كل ما تتعرض له ثورتهم اليوم. وعن ذلك كان هذا الحوار القصير معه:
تتصاعد وتيرة اعمال خطف الناشطين السوريين المدنيين من قبل مسلحين في المعارضة كما كانت تحدث وما زالت على يد النظام. كيف يقرأ ياسين الحاج صالح تنامي هذه الظاهرة، وأي مستقبل برأيه للحراك المدني الإعلامي والسياسي، والإعلام الجديد الذي وُلد مع الثورة؟
– أعتقد أن هذه الممارسات من فعل مجموعات تنسخ في تفكيرها وممارساتها بنية النظام الأسدي ذاتها. النظام هو النموذج الأصلي لـ”داعش” وأشباهها مع اختلاف في الإيديولوجية والرموز. وكلما تعثرت الثورة وازدادت الصعوبات في وجه تحقق تطلعاتها الأصلية كان محتملاً أكثر أن تظهر قوى ضيقة الأفق، تستغني بفرض سيطرتها على بعض مناطق البلد عن الحاجة السورية العامة إلى تغيير نظام السياسة والدولة.
كانت الثورة جمعت تحت راية العداء للطغمة الأسدية طيفاً واسعاً ومتنوعاً جداً من السوريين، واليوم نرى تمايزات حادة وصراعية وتناحرية ضمن هذا الطيف، تفرق بين الثائرين المنحازين للتغيير من أجل مصلحة الأكثرية الشعبية على مختلف منابتها، وبين مشاريع التسلط الجديدة، أو الإقطاعيات الجديدة.
ورأيي أن مستقبل الحراك الثوري مرهون بالجمع بين الانحياز القطعي للثورة وبين الدفاع عن قيمها المؤسسة التي تضعنا في موقع الصراع مع المتسلطين الجدد. نحتاج إلى فكر يوحد و”عقيدة” تشد شتاتنا الواسع لكن غير المنظم. لسنا قليلين، أعتقد أننا كثيرون جداً، لكننا مشتتون، ومستقبلنا رهن بتنظيمنا والعمل معاً.
ثمة من يحاول ان ينعي الثورة مع حوادث اختطاف متكررة كالتي حصلت للسيدة سميرة وزميلتها السيدة رزان والأستاذين وائل وناظم. والبعض يرى الثورة بشقها المدني مستمرة على ضعف هذا الشق، والبعض الآخر لا يزال يحاول تبرئة الإسلاميين الراديكاليين من كل هذه الانتهاكات بدواعي أولوية المعركة مع النظام. هل ما زلت تراهن على هامش مدني ديمقراطي في صفوف الثورة السورية يمكن تطويره مستقبلا والبناء عليه في مواجهة النظام والإسلاميين، وسط كل هذا المد الإسلامي المتطرف؟
ـ لا أرتاح للحديث عن شق أو تيار مدني في الثورة في مقابل تيار أو “مد إسلامي متطرف”. “الشق المدني” تصور غامض ومفعم بالالتباسات، ويمحو الفوارق بين متواطئين مع النظام ومبررين لفاشيته، وبين ثائرين منحازين للعامة التي لا تزال تدفع 70 أو 80 شهيداً كل يوم.
أفضّل من جهتي الحديث عن طيف ثوري، “مدني” وعسكري، يضم أناسا من أصول مختلفة، بينهم إسلاميون، وبين تكوينات متطرفة ومضادة للثورة، مثل “داعش” ومجموعات أخرى، نموذجها هو النظام: الحزب الواحد والصوت الواحد والرأي الواحد واللون الواحد. ومنطق التبرير نفسه: اخرسوا! نحن نخوض معركة ضد العدو!
لدى تشكيلات كثيرة ذات ميول تسلطية قوية، منها جبهة النصرة وجيش الإسلام وأحرار الشام…، قد لا تكون أوغلت في الإجرام وتدمير المجتمع بقدر النظام و”داعش”، لكنها ليست بعيدة عن هذا التكوين. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحد من تفاقم هذه النزعات التسلطية هو ظهور تيار شعبي ديمقراطي، يقف في مواجهة سياسات النخبة بمظاهرها العديدة، النظام الفاشي، والإسلاميين الفاشيين، والمعارضة التقليدية التي أرى أن 1000 يوم من الثورة أظهرت مدى هزال حسها الشعبي وضعف كمونها الديمقراطي، وكونها أقرب إلى عبء على الثورة منها إلى سند لها.
في حادثة مثل حادثة اختطاف اعضاء مركز توثيق الانتهاكات، هل ترى ان ثمة تنسيقاً بين الجهة الخاطفة، والتي يشير معظم الناشطين إلى انها جيش الإسلام بقيادة زهران علوش، وبين النظام السوري، على ما كان يجري الحديث مثلاً عن تنسيق بين جبهة النصرة والنظام أو تواطؤ بين النظام وبينها؟
– لا أعرف. هذا أمر يحتاج إلى معلومات. لكن لا شك عندي إطلاقا في أن اختطاف رزان وسميرة ووائل وناظم أهلّ البهجة على قلب بشار الأسد وطغمته الفاشية، وأنه هدية لا تقدر بثمن لهم. ماذا يريدون غير أن يتعرض للتهديد والأذى 4 ناشطين عزّل بينهم سيدتان؟ ماذا يريدون أكثر من القول إن الغوطة التي عمل الأربعة على لفت نظر العالم إلى حصارها وجوع الناس فيها هي مكان غير آمن لمن يدافعون عن المحاصرين والجياع والمحرومين؟
ماذا يريدون أكثر من القول إن القوة المهيمنة في دوما، جيش الإسلام، لا تملك قضية عادلة وأنها تتصرف كعصابة مسلحة، لا تحمي السكان الواقعين في عهدتها؟
لا أعرف أيضاً إن كان جيش الإسلام هو من اختطف سميرة ورزان ووائل وناظم، لكنه بالتأكيد يتحمل المسؤولوية السياسية والمعنوية عن الواقعة، وأشتبه كثيراً في أنه يتحمل المسؤولية القانونية كذلك.
كمثال أنت وزوجتك سميرة الخليل، من سجون الأسد الأب إلى التخفي والعمل في الغوطة أيام الثورة إلى ملاحقتك على يد “داعش” والقوى المتطرفة، ثم خروجك من سوريا واختطاف سميرة،. وكثير من السوريين يلاقون اليوم المصير نفسه. بأي نظرة ينظر الكاتب والمثقف والباحث ياسين الحاج صالح إلى مستقبل البلاد؟
– في الواقع، لم ألاحَق على يد “داعش”. كان التواري خياري الطبيعي حين وصلت إلى الرقة بسبب وجود اثنين من إخوتي وقتها بيد “داعش” (لا يزال فراس بين أيديهم)، واعتقال الأب باولو الذي كان في بيتنا حتى يوم واحد قبل وصولي إلى الرقة. وليس مقطوعاً به أن من اختطف سميرة ورزان ووائل وناظم هو جيش الإسلام. أرجح مسؤوليتهم، لكن لا أجزم في الأمر.
مؤلم جدا على المستوى الشخصي هذا التمزق الرهيب الذي تعرضنا له كأسرة، وتعرض لمثله كثير من اصدقائي وأصدقاء سميرة، وصولاً إلى اختطاف سميرة نفسها مع رزان ووائل وناظم. تعطّل مثل هذه الضربات المؤلمة القدرة على العمل والتفكير، لكني أدرك أن أفضل دفاع عن سميرة ورفاقها هو الاستمرار في الكفاح من أجل تحررنا.
من الواضح اليوم أن وضعنا شديد الصعوبة، لكن لا شيء يدعونا الى اليأس أو التشاؤم أو الاستسلام. نحن في صراع مع الطغيان منذ عقود، لا شك أن جولته الراهنة قاسية جداً، لكن هذا هو الثمن الذي ندفعه من أجل تكسير البنية المتصلبة للنظام البعثي والأسدي. هذه البنية القائمة على الامتياز والتمييز تدافع عن نفسها بشراسة، وتظهر استعداداً لا لبس فيه لتدمير البلد كي تستمر. جماعة النظام صريحون في ذلك ولا يخفونه. وتصوري أن المستقبل منوط بكفاحنا وحسن تنظيم قوانا وسياستنا، لكن لن يكون لبلدنا مستقبل من دون تحطيم هذه البنية الامتيازية وإلحاق هزيمة سياسية كاملة بمن يشغلون مواقع السيطرة والتحكم فيها. أعني بالضبط التخلص من سوريا الأسد كنموذج لكل إقطاعية ممكنة في سوريا.
مستقبل بلدنا مكتوب في قدرتنا على الاستمرار في المقاومة وتجديد أشكال الصراع، ومنح اهتمام أكبر لأبعاده الفكرية والقيمية.