الكادحون في “الجحيم”/ فاطمة بزي
تنظر إلى وجه الطفل. (الطفل بحسب المادة 1 من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل هو: كل كائن بشري لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المطبق عليه) توحي قسماته بالطمأنينة. ينام بهدوء في حجر أمه الجالسة على الرصيف. تستعطي المارّة بكفِّها اليسرى وتحمله على ذراعها اليمنى. كذلك، استعان جمال الدرة، والد محمد الدرة بيده اليمنى لحماية ابنه من رصاص الاحتلال الإسرائيلي. لوّح بها لخمس وأربعين دقيقة في الـ30 من أيلول عام 2000. عبثاً. استشهد محمد وهو إلى جانب والده. سكت الرصاص لكي لا يوقظه من غفوته. أما الطفل فلا يوقظه استجداء أمّه لعابري الطريق. تصل إليه أصوات أبواق السيارات. يلوّث الصوتان سمعه. لا يعي الطفل ما تفعله أمه. ذاكرته البيضاء تخزِّنُ صوراً لما يعيشه. ينشأ عليها وتتكون شخصيته. في السنة القادمة هل سيعود هذا الطفل إلى وطنه سوريا؟ أم سيظل يبيت في ذات الشارع الذي تجلس عليه أمه؟
(المادة 22: يتوجب تأمين الحماية للأطفال اللاجئين، إن كانوا وحدهم أو مع والديهم، وتقديم المساعدة الإنسانية الضرورية لهم من أجل التمتع بالحقوق المنصوص عنها في هذه الاتفاقية)
تجلس ميرنا إلى جانب أمها على الدرج. توقف المارة على الطريق. تمدّ يدها لهم. تسألها عن اسمها. تجيب: “أنا”. تلقنها أمها اسمها. تعيد لفظه. تسألها عن عمرها، فتجيب باسمها الذي حفظته تواً. تقول أمها سنتين. من أين جئت؟ أمها مجدداً: “سوريا”. تمسك بكنزتها التي لا تعرف أنها متّسخة. ترفعها فتكشف عن بطنها. تضعها في فمها باستحياء. تعيدك ميرنا إلى مشهد طفل فلسطيني يحمل محفظته المدرسية على ظهره. يعترضه جنديان إسرائيليان (كما نقلت يوما كاميرا تلفزيون “الجزيرة”). يطلبان منه فتح الحقيبة ليفتشاها. وضعها أرضاً. فتحها وتأكد الجنديان من محتوياتها. ثم رفع كنزته، فبانت كنزة أخرى لأن الطقس كان شتاء. رفع الكنزة الأخرى ليكشف عن بطنه عارية من زنّار متفجرات. أمره أحد الجنديين برفع يديه والوقوف إلى الحائط. خضع لأمره. عاد ليأخذ حقيبته. حملها وناداه الآخر. توجه إليه. يرتعد الصبي الذي لا يتجاوز السابعة، خوفاً. بماذا تُراه يقاوم مسلَّحيْن كريهَيْن؟ تستخدم ميرنا يدها لتعطيها ما تزهد به. لا تدرك أن المبلغ الذي ستعطيها إياه لن يشتري لها دواء لتنظيف ملابسها. تُخرج الورقة النقدية لها. تأخذها مباغتة منك خوفاً من العودة عن قرارك. نجحت ميرنا ابنة العامين في أن تجد عملاً لها. تستطيع أمها الاطمئنان على مستقبلها!
(المادة 32: يحق للطفل الحصول على الحماية من العمل الذي يشكل خطرًا على صحته أو نموّه البدني أو العقلي أو الروحي أو المعنوي أو الاجتماعي بالإضافة إلى تعليمه. ويتوجب حماية الطفل ضد كافة أنواع الاستغلال الاقتصادي. ويتوجب على الدول الأطراف تحديد عمر أدنى للالتحاق بالعمل وتنظيم شروط العمل)
هل تحلم بائعة الورد باليوم الذي سيهديها حبيبها وردة لها؟ هل تأخذها وتنظر إلى باقة الورد الجوري الذي تبيع منه للعاشقين والعاشقات؟ “وردة للوردة؟”، تستميل الفتيات بمغازلتهن ليشترين منها. “الله يخليكن لبعض”، تخرج لفظة الله بلكنة شامية أصيلة من بين شفتيها لإقناع الشاب على إهداء حبيبته وردة حمراء. يأخذها فتفرح بربحها وترتفع دعواتها لهما. تعلمت أن الدعوات “من لزوم الشغل”. شعرها مجدول وسحنتها سمراء. تبدو “حبابة” كما يمكن أن تناديك. عملها لا يليق بها. تركت والداها في سوريا. جاءت لتساعدهما على تأمين لقمة العيش. تسكن عند عمِّها الذي غادر سوريا منذ سنة. تشتاق ابنة السبعة أعوام للعودة إلى مقاعد الدراسة. ولكن واجبها اليوم يحتّم عليها تجاهل عمرها. يحتاج أهلها للمساعدة. فتنزل إلى الشارع لتبيع الورود. تتسلى خلال النهار مع زملائها في العمل. زميل لها يعمل كماسح أحذية. يحرص على جهوزية أدواته: الفرشاة، الصباغ، الرقعة. يشيِّك عليها كي لا تخذله إحداها أمام زبائنه. إذ ليس بالأمر السهل أن يحافظ عليهم لكثرة مزاولي هذه المهنة في الشارع. يراقبها أثناء دوام العمل الممتد من صباح النهار إلى مساء الليل. لاحظته فتاة الورد. لعله الحبيب الذي سيهديها الوردة؟ وهي ماذا تهديه؟ زوج أحذية أم أصبغة لها؟
(المادة 39: تتخذ الدول الأطراف كافة التدابير الملائمة لتوفير العلاج المناسب لكافة الأطفال ضحايا النزاعات المسلحة والتعذيب والإهمال والاستغلال وأي نوع آخر من سوء المعاملة ولتأمين شفائهم النفسي والبدني مع مراعاة احترام كرامتهم)
يحدّق طفل بفتاة تمسك هاتفها لتصور رفيقتيها. وجهه يبتسم من دون فمه. ينظر إليهم مدركاً بحدسه الطفولي أن صورتهم ستحفظ على تلك الآلة السوداء. يريد أن يجرب هو أيضاً. تمرّ الحياة من أمام يوسف وهو برفقة أمه على قارعة الطريق. في جلسته، تتكئ يداه الناعمتان على ركبتيه. محياه جميل كيوسف. شعره أشقر ومسدول. أين ينام يوسف؟ كيف ينام؟ بماذا يحلم بعد أن يمرّ يومه بشريط خليط من الأحداث والناس التي لا تراه؟ هو غير مرئي وإذا صادفه أحدهم يتجاهله. ما هي ألعاب يوسف؟ هل لديه كرة؟ هل لديه دراجة؟ لا وقت للعب. كبر بما فيه الكفاية ليكف عن هذه الترهات. إنها مضيعة للوقت! يريد إثبات رجولته لأمه. يستطيع أن يكون سندها. لا يريد خذلانها. ما الذي يخفيه الغد له؟ غداً؟ غداً يأتي الشتاء! ما هو الشتاء ليوسف؟ كيف سيحصل على معطفٍ صوفي يقيه البرد؟ كيف سيقف على الشارع مع الوالدة لمزاولة عملهم اليومي في يوم ماطر؟ كانت تمطرهم القذائف في سوريا. في لبنان، تمطرهم الأيام تعباً وهم يكدحون في الجحيم. بعد سنة، يبلغ الثالثة من العمر. هل سيقصد المدرسة؟ ليتعلم؟ ليقرأ؟ ليفكر أكثر؟ ليتعرف على رفاقه ويلعب وإياهم؟ ليلتقطوا الصور لأنفسهم سوياً؟
(المادة 28 من حقوق الطفل: يحق للطفل الحصول على التعليم، ويتوجب على الدولة تأمين التعليم الابتدائي (كحد أدنى) بشكل مجاني وإلزامي، كما يجب أن يتماشى النظام المدرسي مع حقوق الطفل وكرامته)
لعلي عينان عسليتان لا أجمل منهما! يحمل علب العلكة. يدور بين الطاولات. يعرضها على الزبائن. صوته خفيض وخجول. لن يعترض إذا ما أعطيته نقوداً على أن يحتفظ بالعلبة التي دفعت ثمنها أو يزيد. يقبل منك قطعة الحلوى التي لم تأكلها. يأتي النادل (البُعبُع) ليطرده خوفاً من انزعاج الزبائن منه. يفرّ راكضاً خارج الحدود الافتراضية لمقهى الشارع. ينضم إلى شلة رفاقه. فهم يزدادون يوماً بعد آخر. تشتاقهم مقاعدهم الدراسية التي تحطمت. وإن لم تتحطم، فدوي الانفجارات يشوّش صوت المدرِّس. الخوف سيمنعهم من إكمال تلوين رسومهم أو إنشاد أغانيهم.
(المادة 38: في حالة النزاعات المسلحة، تتعهد الدول الأطراف بتأمين قواعد القانون الإنساني الدولي، وتحديدًا تلك المتعلقة بالأطفال واحترامها، ولا يسمح لأي طفل لم يبلغ خمسة عشر عامًا بالمشاركة في النزاعات المسلحة، ويحق لكافة الأطفال الحصول على الحماية والرعاية).
احتفلت إحدى الدول منذ مدة بوفاة آخر مواطن أمِّيٍّ. متى يحتفل العالم العربي بموت كهذا؟
السفير