الكاردينال الرمادي/ صبحي حديدي
أثارت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية جدلاً، مهنياً في المقام الأوّل، وسياسياً وأخلاقياً بعدئذ، حين فتحت أعمدة الرأي في صفحاتها، فنشرت مقالاً كتبه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يناهض توجيه ضربة عسكرية أمريكية ضدّ النظام السوري، ويبرّيء جيش بشار الأسد من ارتكاب المجازر الكيميائية التي شهدتها الغوطة مؤخراً، ويُلقي بالتهمة على عاتق المعارضة.
المعترضون على نشر المقال اعتبروا أنّ أفكاره ـ خاصة إذْ تصدر عن رئيس دولة عظمى منحازة تماماً للنظام السوري، وتزوّده بالسلاح والعتاد والتدريب العسكري، واستخدمت حقّ النقض في مجلس الأمن الدولي لتعطيل أيّ قرار يدين خيارات النظام العنفية، بما في ذلك المجازر الجماعية ـ لا يمكن أن تُحتسب في عداد الرأي، لأنها أقرب إلى مرافعة الخصم والحكم. المدافعون عن نشر المقال، وفي طليعتهم أندرو روزنتال محرّر صفحة الرأي في “نيويورك تايمز”، ساجلوا بأنّ منصب بوتين السياسي لا يطمس حقّه في إبداء نظر شخصية؛ لا تُصاغ في تصريح رسمي أو حوار صحفي، كما جرت العادة مع الرؤساء وكبار المسؤولين الحكوميين، بل عبر عمود رأي.
والحال أنّ المهمّ في هذا السجال قد لا يكون نشر المقال، أو الاعتذار عن نشره، بسبب هذه أو تلك من الذرائع والذرائع المضادة (وهي كثيرة في الواقع، على جانبَيْ النقاش)؛ وبالتالي فإنّ الأهمّ ليس ما جاء في المقال، بقدر ما غاب عنه، أو غُيّب عن سابق قصد وتصميم. على سبيل المثال، حين يبتز بوتين المواطن الأمريكي بوسيلة تصوير المعارضة على هيئة مقاتلين أجانب، أصوليين ومتشددين وجهاديين، فقط؛ فإنه يتناسى، عامداً بالطبع، وجود أجانب آخرين يقاتلون في صفوف النظام، لهم بدورهم طبيعة جهادية ومذهبية متشددة، مثل قوّات “حزب الله” اللبناني، و”فيلق القدس” الإيراني، و”لواء أبو الفضل العباس” العراقي، وجماعة الحوثيين اليمنية…
وحين يستهجن ممارسات “القاعدة” و”جبهة النصرة” و”الدولة الإسلامية في العراق والشام”، ويعتبرها وحدها ممثلة المعارضة السورية، ويشطب بالتالي أيّ محتوى ديمقراطي وعلماني ومدني للغالبية الساحقة من فصائل المعارضة، بما في ذلك كتائب “الجيش السوري الحرّ”؛ فإنّ بوتين يتغافل تماماً عن جرائم النظام الوحشية في أربع رياح سورية، ولجوئه إلى استخدام النيران الثقيلة كافة، المدفعية والصاروخية والجوية (الروسية، إياها!)، وصواريخ الـ”سكود” بعيدة المدى، والبراميل المتفجرة، والأسلحة الكيميائية… ضدّ شعب أعزل عملياً، طيلة 30 شهراً، انتهت حصيلتها إلى 120 ألف شهيد، بينهم آلاف الأطفال ممّن قُتلوا ذبحاً بالسلاح الأبيض، واعتقال أكثر من 215 ألف مواطن، وتشريد الملايين داخل سورية وخارجها.
لا يقول بوتين كلمة واحدة، حرفياً، عن هذه الحصيلة؛ ولا يلوم النظام السوري على أيّ خطأ، بما في ذلك اقتلاع أظافر أطفال درعا في مستهلّ الانتفاضة، ومواجهة الاحتجاجات السلمية الأولى بالرصاص الحيّ. وحين يطالب باحترام القانون الدولي، وعدم شنّ الحروب على الآخرين إلا دفاعاً عن النفس أو بتخويل من مجلس الأمن الدولي؛ فإنّ بوتين يتناسى تماماً الدور العسكري الروسي المباشر في حرب القوقاز وغزو جورجيا، صيف 2008 حين كان رئيساً للوزراء، بذريعة حماية المواطنين الروس، والتدخّل بالنيابة عنهم في أوستيا وأبخازيا.
ومَن تابع في الماضي مفردات بوتين، حين سعى إلى مجاراة أمثال جورج بوش وتوني بلير في هجاء “الإرهاب الدولي”، وبتابع اليوم المفردات ذاتها كما يجترها اليوم في مقالة “نيويورك تايمز”، لا يخامره ريب في أنّ القيصر الجديد هذا أتقن سريعاً اللعبة الدونكيشوتية التي انخرط فيها زملاؤه قادة الغرب، من أهل النفاق والازدواج والكيل بمكاييل عديدة. وهكذا، خلال زمن قياسي مدهش، طفحت بلاغة خطابه بالثنائيات الغربية التي تضخمّت وانتفخت وانتعشت بعد وقائع 11/9، وصار لسانه ذرباً حول الفارق بين المدنية والبربرية، التقدّم والتخلّف، الخير والشر، و”نحن” في موازاة “هم”… بل أصابه، مؤخراً، مسّ اقتباس الأناجيل أيضاً!
وذات يوم توجس غينادي زوغانوف، زعيم الحزب الشيوعي الروسي، من صعود نجم بوتين، لأنّه كان على علم بأنّ الأخير استحقّ، خلال عقود عمله في المخابرات السوفييتية، لقب “الكاردينال الرمادي”: هذا يعني، أوّلاً، أنّه كاردينال أقلّ مرتبة من القياصرة البطاركة؛ ويعني، ثانياً، أنّه رمادي اللون، حائر بين الأبيض والأسود!
موقع 24