الكاريكاتور سيظلّ يطيح الديكتاتور
روجيه عوطة
الكاريكاتور، وهو فن المغالاة، لم يقف على الحياد في المعركة التي خاضها الشعب المصري ضد نظام حسني مبارك، وهو لا يقف حالياً على الحياد في المعركة ضد الاستبداد الإخواني. هذا مردّه إلى أسلوب الرسم الكاريكاتوري وغايته الأولية، أي تضخيم الحدث وشخصياته من أجل التعليق عليها، أو نقل أخبارها.
لا تنفصل الرسوم التضخيمية عن النقد، بل تؤلف الموضوع من جديد، كي تنتقده، وتواجهه بالمستور من خطابه ورأيه، بإضافة بعض العبارات، أو الإكتفاء بالصورة المفرطة في حجمها. يتجاوز فن الكاريكاتور الأشكال الظاهرة، وينفذ إلى الجمع بين البارز والمخفي، فيتشكل موضوعه بالإرتكاز على ثلاثة أبعاد، أي الشكل والخطاب واللغة، التي يورّمها كي يصدع إضمارها. يتقاطع فن المبالغة مع الثورة من الناحية الغائية. يحاول الأول هزّ البادي من الأحداث والقبض على مستورها. تهدف الثانية إلى إطاحة الحكم ورموزه، عبر الإنتفاضة، والإمساك ببنيته الأساس أي النظام وآلياته. فالبادي هو الرئيس وحاشيته، أما المضمر فمجموعة التدابير المتراكمة، بفعل التشابك بين البنى الإجتماعية والإقتصادية، فضلاً عن مفاعيل الإيديولوجيا السلطوية، التي تفسر الحقائق والوقائع بحسب شعاراتها ومقولاتها، ما يؤدي إلى تشويه المُفسَر وهلاكه.
عندما اندلعت الثورة المصرية ضد نظام مبارك، بالغ الكاريكاتور في تحويل الديكتاتور موضوعاً سياسياً، لا يمثل شخصه فحسب، بل كل سلطة حاضرة داخل النظام. كل انتقاد يوجَّه إلى مبارك، يستهدف كل مستبد في مصر.
بدا الكاريكاتور المصري مرافقا للتبدلات والتطورات بعد إسقاط مبارك، فلم تنتهِ معركته عند تنحّي الديكتاتور. يحدّق الفنانون في المضمر داخل المشهد السياسي العام، ويتمكنون من تشبيك تمظهراته الكثيفة. يقابل الكاريكاتور محاولات محمد مرسي الإستبدادية بتدابير تعسفية اقتدى بها حسني مبارك على طول عقود، قبل أن يُسقطه الشارع ويزجّ به في السجن المؤبد.
يحدد فنانو المبالغة أهدافهم، ويتقدمون نحوها، لانتقادها والإنتهاء من طغيانها. يماثلون بينها إنطلاقاً من لجمها الحرية وتقييدها الناس إيديولوجياً، وإبعادهم عن الواقع. يتدرجون من إسقاط مبارك بالرسوم، إلى نقد الإسلام المتشدد وتحالفه مع العسكر، ثم وصول الظلاميين إلى الحكم. في المواضيع الثلاثة، لا تغيب السخرية من السلطة والتهكم على ممارساتها، إذ يضخمها الكاريكاتور فنياً لتقزيمها واقعياً وتحطيم رموزها شكلاً ودلالةً.
رسم الخلع
الرسم الكاريكاتوري الأشهر الذي رافق ثورة 25 يناير، ظهر فيه الشاب خالد سعيد حاملاً بإصبعين حسني مبارك، لرميه خارج المشهد المصري. كان هذا الرسم بمثابة مفتاح فني يشرّع أبواب البلاد على مرحلة جديدة، يقودها الشعب الذي تفلت من الخوف، واكتشف دوره التاريخي في قلب المعادلة السياسية، وانتزاع الحرية من السلطة. لذا، ظهر خالد سعيد ضخماً، على خلاف حسني مبارك، الذي تقزم، وبدا مسلوب الإرادة، مذعوراً من إنتفاضة الناس ضده. أعلن الرسم أن القتيل قرر إطاحة القاتل، والدفاع عن حق الآخرين في العيش بحرية، فعاد الشاب سعيد من الموت، وتوجه إلى الديكتاتور، مقتلعاً إياه من السلطة. في الأثناء، كان مبارك مشلولاً بين إصبعيه، فقد خسر حكمه، واختفت ممارساته الخداعية فجأةً، وما عادت تفضي إلى نتائج واقعية، تسمح بالمحافظة على الإستقرار الإستبدادي، وعلى أمن الطغيان.
الرسم الثاني، الذي ظهر فيه مبارك كرئيس مخلوع، هو إعلان عن الوسيلة التي استخدمها الثوار المصريون من أجل إطاحته، أي الشبكة العنكبوتية. يعلق مبارك في شبكة من الخطوط الإلكترونية، الموصولة بالحواسيب الموجودة على الطاولات. خلفها، الشباب ينقرون على الأزرار، حتى سقوط الديكتاتور. في السياق عينه، الذي يوضح الوسائل الثورية، يظهر مبارك في رسم كاريكاتوري آخر، ذارفاً دموعاً إفتراضية، هي عبارة عن شعارات “فايسبوك” و”تويتر”، في إشارة إلى دور هذين الموقعين في تسهيل تحركات الناس. لم ينتبه النظام إلى أهمية مواقع التواصل الإجتماعي، فاعتبرها مجرد عناوين للتسلية واللهو. لكنها في النهاية فضحته وحركت الشوارع المجتمعية ضده. في رسم آخر، تظهر خانة زرقاء، فيها صورة مبارك، إلى جانبها، كلمة “إزالة”، المستخدمة في الـ”فايسبوك”. وقد كُتبت عبارة “قولوا مبروك مش مبارك”، تعبيراً عن الأمل الذي حققه سقوط الديكتاتور بعد أيام صعبة ودموية من التظاهرات، والمواجهات بين الناس والقوى الأمنية.
ظهر مبارك في رسم فني، يصوره ممدداً على السرير، وأمامه المحامي، الجالس على الكرسي، طالباً منه تأدية دور الضحية. يبدو المشهد كما لو أن مبارك يمثل على المشاهدين، ويطلب تعاطفهم، كي لا يحاكَم. وذلك، على أساس خطة تصويرية، يقودها المحامي- المخرج، لجذب المشاهد المصري، والقبض على مشاعره الإنسانية. كي يكتمل مشهد العدالة، يُصوّر رسم كاريكاتوري مبارك في زنزانة، صُممت على مقاسه. إذ يجلس داخلها بطريقة جامدة، ولا يقدر على الإتيان بحركة، تذكّره بأنه كان “رئيساً” في مصر.
سخرت الرسوم الكاريكاتورية من “الرئيس المخلوع”، وهي كانت قد خلعته قبل أن يسقط واقعياً، تلاعبت بشكله، حتى بات يثير الضحك لا الذعر. هذا ما سهّل تنحّيه فنياً، فقد أصبح مجرد شكل صوري، لا يلتزم الكاريكاتور حجمه أو منظره، بل يتجاوز مظهره الواقعي، وينسف ضخامته الجسمية، كعلامة من علامات تقلص مكانه، وانتهاء سلطته. فالكاريكاتور مهّد لسقوط الديكتاتور باقتلاعه من حجمه، وتقزيمه أمام الشعب.
محمد مرسي مبارك
غير أن “الرئيس” المخلوع عاد من ناحية التماثل مع السلطة الجديدة، التي ترأسها محمد مرسي. ولأن الرئيس لم يعد مصدراً للخوف بعد اندلاع الثورة، حرص الفن الكاريكاتوري على مراقبة أداء مرسي، والتعليق عليه. تهكمت معظم الرسوم على المحاولات التي بذلها الرئيس كي يصبح “ديكتاتوراً” جديداً، من خلال التحالف مع العسكر، وطرح دستور جديد، يعزز صلاحياته الرئاسية، ويلغي به دور المؤسسات البرلمانية والقضائية، أو يحصرها في سلطته الشخصية. تالياً، قرر مرسي التغيّر إلى مبارك آخر، قانونياً وشعبياً، إلا أن الكاريكاتور واجهه بالمبالغة في مباركيّته، ثم إطاحتها من جديد.
في هذه الجهة، رُسم الرئيس الجديد أمام المرآة، يحدق فيها، فيشاهد وجه محمد حسني مبارك بدل وجهه الذاتي، كإشارة إلى التماثل الحاصل بينهما. يتحول مرسي إلى فرعون إسلامي، يأمر أحد أنصاره بالإحتفاظ بصناديق الإقتراع من أجل استعمالها في الإنتخابات المقبلة. كما أنه، وبفعل ديكتاتوريته الناشئة، يبدل إسم “ميدان التحرير” بـ”ميدان الشريعة”، كي يقبض على الفضاء الحر، الذي صنعه المصريون خلال ثورتهم، ومارسوا داخله حرياتهم وعبّروا عن آرائهم ومواقفهم بدون خوف من أي طرف، مهما تكن قوته الميليشيوية. واجه الشارع المصري البلطجية، وانتهى منهم، قبل أن يواجه من جديد الجماعات الإخوانية، وميليشياتها المختلفة.
يجلس مرسي في أحد الرسوم على تمثال لإلهة مصرية قديمة، ويغطي وجهها بالحجاب، كي تُظهر مفاتنها أمام الآخرين. كما يحمل الرئيس مقصاً ضخماً، يفتحه من طرفيه، حتى يتسع لسقوط إمرأة فيه، تعبيراً عن القمع الذي تتعرض له النساء واقعياً ودستورياً في ظل السلطة الأخوانية. في رسم آخر، يظهر مرسي حاملاً فأساً، يضرب به شجرة، تدعى “مصر”، وإلى جانبه عدد من المتشددين، يتفرجون على إسقاط البلد واقتلاعه من تاريخه.
بعد الدستور الجديد الذي طرحه، كرس مرسي ديكتاتوريته ما بعد المباركية، لذا واجهه فنانو الكاريكاتور بعدد من الرسوم تثبت التشابه بين الرئيسين السابق والحالي. مرسي جالساً على عرش حديد، كُتب عليه “محمد مرسي مبارك”. لكن العرش لم يكن مثبتاً بالأرض بشدة، وهذا ما يؤكده رسمٌ آخر، يظهر فيه مرسي ساكناً ساعة الرمل، وفوقه عبارة “النهاية قربت”.
فضلاً عن مراقبة أداء الرئيس الجديد، قزّم الكاريكاتور مرسي، وضخم الشعب أمامه، كما قبّحه وشوّه حجمه. في أغلب الرسوم، يُصَوَّر “محمد مرسي مبارك” بلحية كثيفة، غير مرتبة، كما لو أنه طارئ على الرئاسة، وغير ملائم لها، وخصوصاً أنه وصل بقدراته الضيقة إلى الحكم في مرحلة دقيقة، تفصل بين النظامين القديم والجديد. لا يرضخ الكاريكاتور للواقع الديكتاتوري الجديد، بل يماثل بين السلطتين المباركية والمرسية، ويبين كل السلطات الإستبدادية، على طريقة إحدى اللافتات التي رفعها متظاهر مصري، كاتباً “يسقط الرئيس القادم. تحيا الحرية رغم أنف الجاهلين”.
حكم السرقة
يجلس أحد الأطفال خلف صحيفة، ويقرأ “بنى محمد علي مصر الحديثة سنة 1805، وسقطت على يد الأخوان عام 2012”. يختصر هذا الرسم الكاريكاتوري الظرف المصري الجديد بعد وصول “الإخوان المسلمين” إلى الحكم، مبددين مطالب الثورة، المتعلقة بالحريات والحقوق والديموقراطية. صادر الظلاميون التحرك الشعبي، وغيّروا مساره الشعاراتي وأهدافه، ولاسيما بعدما حققوا غايتهم الأساسية، أي تسلم السلطة، وتكريس القمع قانونياً. وصلوا إلى سدة الحكم عبر صناديق الإقتراع، وثبّتوا مواقعهم بالمواد الدستورية، وبالطغيان على كل المؤسسات الرسمية.
احتل الإسلاميون مصر، وحاولوا تجميد زمنها ولجم مجتمعها. لكن فنّاني الكاريكاتور قابلوهم بالنقد الساخر وبالتهكم القاسي. يقف أحد الملتحين أمام امرأة منقبة، ويشير إليها بإصبعه صارخاً: “الدستور يحقق لنا مصر التي نحلم بها”. كما يخفي واحد من المتشددين شمس 25 يناير وراء ظهره، ويخبر مواطن أمامه “إلحق في حد سرق الثورة وجرى من هنا”. في الجهة نفسها، يظهر مراسل إعلامي في شريط كاريكاتوري، مصرحاً ثلاث مرات عن المرحلة الإنتقالية. فيتدرج من “المرحلة الإنتقالية انتهت بسلام”، إلى “إنتقل الإخوان إلى مقاعد السلطة، وانتقل الثوار إلى مقاعد المتفرجين”، ثم يصرح في النهاية قائلاً “أن الثورة قد انتقلت إلى رحمة الله”.
يرتبط النقد، الذي يوجه فن الكاريكاتور إلى السلطة الإخوانية، بالسؤال عن مصير الثورة وأهدافها. فبعدما التحت السلطة، واشتدّت الذكورية المجتمعية، ونُقّبت النساء، وقُمعت الحريات، وهُمِّشت الديموقراطية، وازداد الجوع وتضاعف الفقر، أصبح من المستحيل ألا يستفهم الفن عن ثورته، منتقداً ممارسات الأصوليين الرسمية. تضخمت الإيديولوجيا الدينية وطغت على الواقع المأسوي الذي يحياه المصريون، ويعانون منه يومياً، ما أدى إلى سيطرة التجهم على المجتمع، بخلاف ما كانت عليه الحال في ميدان التحرير عام 2011، وإلى انقطاع الإجتماع الذي أتاحته الثورة في لحظاتها اللاسلطوية، المتفلتة من حكم البوليس في المحافظات. في النتيجة، خاض الكاريكاتور معركةً فنية ضد السلطة الجديدة، فاضحاً سياساتها ومنتقداً ممارساتها، من خلال المبالغة في تقزيمها وتشويهها، وتحويلها عنصراً كوميدياً. إذ استخدم الكاريكاتور الضحك كوسيلة ضد تجهم الظلاميين ووجوههم، وحاول إضحاك المواطنين، ومساعدتهم على التفلت من الغضب. كما أعانهم في الانفتاح على البهجة كسبيل إلى الحرية، التي صادرها التعصب، وتسعى السخرية الى استردادها. فالثورة أفضل بدون لحية وفق أحد الرسوم الكاريكاتورية.
النهار