صفحات الثقافة

الكتاب الرقمي أو أن تصنع بنفسك روايتك الخاصة


اسكندر حبش

منذ سنوات قليلة وثمة فكرة تجتاز العالم حيث لم ينفك الجميع عن العودة إليها نقاشا ومجادلة وكتابة: هل ستحلّ «الثقافة الالكترونية»، بما تمثله اليوم من اتساع وتشعب، مكان الثقافة الورقية؟ لا شكّ في أن الفكرة المطروحة تتشكل بالأساس داخل هذا العصر، بل لنقل إنها فكرة تعبر جيدا عن روح العصر. قد يختلف المفسرون في إيجاد جواب حاسم عن هذه القضية، فالبعض يميل إلى اعتبار أن «خير جليس في الأنام» سيبقى الوسيلة الأفضل لنشر الثقافة، بينما يميل آخرون (وإن كان في كلامهم بعض التطرف الذي يصل أحيانا إلى أقصاه) إلى اعتبار أن الكتاب الورقي قد انتهى دوره.

في أيّ حال، لا أرغب هنا في المفاضلة بين الأمرين، بل ما أريده هو طرح السؤال من جهة أخرى بدلا من الدخول في متاهات الجدل الذي قد لا ينتهي. وسؤالي، لا أعرف إن كان يحمل انحيازا ما لأيّ من هاتين الثقافتين، من دون أن أعتبر مطلقا أن عصر أيّ كتاب من هذه الكتب قد انتهى أو ابتدأ، ليحلّ بدلا منه عصر كتاب آخر.

لكن قبل ذلك، لنعد إلى الوراء قليلا: ليس الكتاب سوى اختراع جديد في تاريخ البشرية، إلا أنه يبدو وثيق الارتباط بحضارتنا وهويتنا وطريقتنا في التنفس والتفكير، لدرجة تخال معها أنه موجود منذ الأزل كذلك يبدو أيضا، أنه من الصعب أن يندثر ذات يوم، أو على الأقل، أن يصبح شيئا هامشيا. من هنا، ثمة سؤال، هل أن إبداع دعائم القراءة الجديدة، كمثل «السي دي روم»، أو الكتاب الالكتروني يشكل تهديدا حقيقيا لهذا الكتاب الذي طالما عشقناه؟

ولنطرح السؤال عينه بطريقة أخرى: نعرف أنه منذ زمن طويل، بمعنى من المعاني، ونحن نجد أن الصورة تنافس المكتوب. جاءت السينما في البداية، ومن بعدها التلفزيون ليسرقا قسما مهماً من القرّاء، على الأقل، من قرّاء الروايات، لذلك قد نجد في «السي دي روم»، وغيره من وسائل الاتصالات الحديثة، مصلحة ومنفعة، أقلّه في المجالات المنفعية، كالموسوعات والقواميس. ومع ذلك، فلا شك في أن هذا الأمر قد يشكل مخاطر كبيرة. لأن تفرقة القراءة المفيدة، اصطناعيا، عن الأدب «من أجل المتعة» أمر خطير. والسؤال: أين يبدأ ذلك؟

لو أخذنا مثلا وسأعتمد هنا على بعض الأمثلة من الثقافة الغربية تحديد، إذ إن الثقافة العربية لم تدخل بعد بشكل كبير إلى هذا المجال، وبخاصة أن مثلا قريبا جاءنا من لبنان، عبر دار الساقي، التي أعلنت أنها ستدخل مجال النشر الالكتروني إذاً، لو أخذنا كتاب «تاريخ الثورة الفرنسية» لميشليه، لوجدنا انه كتاب مفيد من أجل فهم التاريخ المعاصر، بيد انه أيضا كتاب فني، بسبب متعته الكبيرة في القراءة. من هنا نجد أن أعمال ميشليه على «السي دي روم» أو مقاطع من «نابليون» لأبيل غانس أو «المارسلياز» لجان رونوار، لن تشكل عندئذ أعمالا حقيقية: إنها منتوجات ثقافية متعددة العناصر، لن يكسب فيها ميشليه ولا غانس ولا رونوار أيّ شيء. أيّ إن العمل الفني هو كلّ، لا يتجزأ بهذا المعنى… فرؤية ميشليه (المفكر الفرنسي، في عصر الأنوار) تكتفي بذاتها وليست في حاجة إلى أي إضافات. أما القارئ مع كتابه، فيصنع بنفسه «سينماه» الخاصة، وموسيقاه الخاصة. ليس بحاجة إلى أيّ شيء آخر. انه موجود في فضائه السحري. فلو أضفنا مثلا بعض المعارك الحربية على رواية «الحرب والسلم»، فإن ذلك لن يخدم رواية تولستوي بأيّ شيء، بل سيبدو الأمر كأنه محاولة لإضعاف رؤية الكاتب.

في واقع الأمر، وخلف ذلك كلّه، أيّ خارج العملية التجارية الكبرى، ثمة فكرة مبطنة، «تربوية» (إذا جاز القول)، إلا أنها قد تصل، في الوقت عينه، إلى هدفها النقيض. يجد البعض، أنّ الكتاب ينقصه عناصر الإغواء: ينقصه اللون، الحركة، الفتيات الجميلات، الممثلون الوسيمون كما في السينما. ربما نستطيع إضافة هذه المقادير، لكننا نصنع عندئذ في الكتاب شيئا آخر: نقتل العمل الفني، نقتل عند القارئ كل ما تحمله له الرواية: الغموض، الإيحاء، وهذا التدبير الذهبي الرائع الذي يحرض عليه أي كتاب جميل.

لقد سبق للاقتباسات السينمائية للروايات الكبيرة أن حرّفت نظرتنا للأعمال الأدبية. فقراءة ثلاثية محفوظ، أفضل برأيي، من مشاهدة اقتباسات حسن الإمام. ورؤية فردوس عبد الحميد في اقتباس مصري لرواية شتاينبيك لا شك في أنها تفقدنا هذه المتعة الأدبية التي تفرض تخيلنا للبطل والحلم به إلى ما لا نهاية. كما أن إضافة الموسيقى إلى أيّ عمل أدبي، معناها أننا حوّرنا طبيعة الأعمال واخترعنا سوء فهم مع القارئ، عبر إبعادنا عنه، وللأبد، هذا الكتاب الجميل القديم الذي يتضمن وحده كلّ ما يجعلنا نحلم ونضحك ونبكي. ما من «سي دي روم» واحد، وربما النشر الالكتروني، من يدري؟ يستطيع أن يقودنا إلى هذه الحياة الأخرى الذي يهبنا إياها الكتاب.

لكن، وبالرغم من ذلك كله، لا نستطيع أن ننسى شيئا أساسيا، يقع ضمن صلب الثقافة العربية؛ منذ بدايات هذه الثقافة، المكتوبة ربما، لم نتوقف يوما عن الحديث، عن الرقابة التي تمنع صدور بعض الكتب في بلادنا، كذلك نتحدث عن الرقيب الذي لا يسمح بدخول كتاب إلى وطنه كان صدر في بلد آخر، إلى آخر تلك المشكلات التي لا تنتهي. مشكلات لعبت، من دون شك، في عدم إيصال نتاج العديد من الكتّاب العرب إلى القراء كما منعتهم من التعرف إلى بعضهم البعض. إزاء ذلك كله ألا نستطيع الاعتماد على هذه «الثقافة الالكترونية» لنحل جزءا من القضية وبخاصة أن الرقابة عليها قد لا تستطيع منعها مثلما منعت تلك الثقافة المكتوبة على الورق؟

أضف إلى ذلك كله مشكلة التوزيع: كم من كتاب وإسم لم نعرفهما بسبب سوء توزيع الكتاب؟ أقول ذلك وأنا اكتشف منذ سنوات بعض المواقع الثقافية على الانترنت (وبالرغم من وجود مواقع قد لا تعني شيئا ولا تستحق القراءة أو حتى النظر إليها)، إلا أن ثمة العديد من المواقع اللافتة والغنيّة التي تقدم حقا العديد من المواد الجديدة في طرحها الفكري والفني، كما الغنية بالأسماء الجديدة التي لما كنا عرفناها فيما لو انتظرنا «عطف» الرقيب الذي يقرأ بقدميه لا بعقله.

العديد من المواقع، تقدم اليوم «ثقافة جميلة»، على الأقل، تقدم تلك الفكرة عن الثقافة، التي نطمح إليها، أي البعيدة عن التعصب (السياسي والديني…) والجهل والايديولوجيا المعلبة والأفكار الجاهزة، والأهم من هذا كله تحليها بتلك المسحة الحقيقية من الديموقراطية في قبولها كلّ الأفكار المتناقضة.

بهذا المعنى، قد يبدو الكتاب الرقمي، وسيلة من الوسائل للتخلص من كلّ هذه الآثار السلبية، التي عانينا منها على مرّ العصور الأخيرة، والتي شئنا أم أبينا ساهمت كثيرا في الحدّ من معرفتنا بالكثير من الأشياء.

عود على بدء، لست في وارد المفاضلة بين الثقافتين. ولكن في انتظار أن تبني ثقافتنا الورقية ديموقراطيتها الحقيقية قد تكون الوسيلة المتاحة أمامنا هذه المساحة الالكترونية. فلندخل في العصر من أجل إنسانيتنا قبل أي شيء، وإن كنت لغاية الآن، ما زلت أنحاز إلى بيت أبي الطيب المتنبي، في قوله: «… خير صديق في الأنام».

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى