الكتب الجماعية: ساحات فكرية في حوض أسماك/ شوقي بن حسن
“مجموعة من المؤلفين” بات في السنوات الأخيرة إمضاء متداولاً في الكثير من الكتب العربية. مثلاً، ولثلاث سنوات متتالية، صدرت في العربية أعمال جماعية تمسح أهم ثلاث ساحات فكرية في العالم؛ الألمانية والفرنسية والأنغلوسكسونية.
ففي 2014، صدر كتاب “الفلسفة الألمانية والفتوحات النقدية” (منشورات “جداول”) وفي 2015 صدر كتاب “الفلسفة الفرنسية المعاصرة.. جدل التموقع والتوسّع” (طبعة مشتركة بين “ضفاف” و”دار الأمان” و”كلمة” و”الاختلاف”)، ومؤخّراً، في خريف 2016، صدر كتاب “الفلسفات الأنغلو أميركية.. من تفكيك الواقع إلى إعادة بنائه” (نفس الناشرين) وهذا الأخير سبقه بأشهر قليلة إصدار كتاب شبيه بعنوان “معجم الفلاسفة الأميركان.. من البراغماتيين إلى ما بعد الحداثيين”، وهي أعمال ليست استثناء بل تترافق مع نشرها أعمال أخرى عديدة في الفلسفة والتاريخ والعلوم الاجتماعية واللسانيات وغيرها من ميادين المعرفة.
هكذا يكاد يتحوّل الكتاب الجماعي إلى ظاهرة. لكن هل تقف وراء ذلك مشاريع حقيقية أم أنها جزء من اقتصاديات الكتابة أم أنها بوادر انهماك عربيّ بالعمل الجماعي في استقصاء الفكر العالمي؟ ثم، ما الفرق بين الكتاب الجماعي بصيغته التي تبرز في السنوات الأخيرة وكتب الندوات والملتقيات التي تشكّل هي الأخرى شكلاً تقليدياً من أشكال الكتاب الجماعي؟
علينا أن نعود إلى محتويات الكتب المذكورة، وثلاثتها تقدّم الساحات الفكرية الألمانية أو الفرنسية أو الأنغلوساكسونية من خلال أبرز أسماء مفكّريها، وهي مقاربة لا يمكن إنكار معقوليّتها نظراً لكونها تتيح من جهة رسم مسار تاريخي واضح فالمفكّرون غالباً ما يتقاربون في انشغالاتهم حينما يعيشون نفس المرحلة التاريخية، ومن جهة أخرى يحافظ ذلك على استقلالية كل فصل من الكتاب.
لكن مقابل ذلك، يوجد جانب خلفي من الصورة، إذ تكاد إضاءة ثقافة ما تقتصر على عملية تجميع أسماءٍ، ومن ثمّ تكليف أحد المتخصّصين بكتابة أحد فصول العمل. هنا، نبدأ في تلمّس إشكاليات الكتاب الجماعي، فنفس استقلالية الفصول تبدو أيضاً تفكّكاً يضرب انسيابيّته، فليس نادراً أن يشعر القارئ بتفاوت درجات تناول هذا المفكّر مقارنة بغيره، دون الاهتمام بوضع تبرير موضوعيّ لمثل هذا التفاوت.
كما يمكن الإشارة هنا إلى غياب أسماء بارزة قد يعتبرها من هو خارج مجموعة المساهمين في العمل أساسية، كغياب جيل دولوز أو آلان باديو أو إيمانويل ليفيناس عن كتاب “الفلسفة الفرنسية المعاصرة”، أو غيابات أرتور شوبنهاور وكارل شميت وحنة أرنت في كتاب “الفلسفة الألمانية والفتوحات النقدية”.
في مرآة الكتاب الجماعي يظهر احتواءُ اللغة العربية للفكر العالمي محكوماً بخيارات مجموعة المساهمين فيه، في حين أن عناوينه توحي بمسح ساحة فكرية بشكل شامل، وهو أمر يوازي ظاهرة أخرى تتمثّل في أن نقل المعرفة العالمية ظلّ محكوماً بخيارات وأذواق المُعرّبين والتي تكون غالباً مبادرات توجّهها الميولات الذاتية والتخصّصات في هذا الفكر أو ذاك، دون نكران أهميّتها.
ما يُخشى من هكذا مشاريع هو أن تتحوّل إلى شجرة اصطناعية تخفي الغابة الحقيقية برمّتها، فالعناوين الكبيرة الاختزالية تصنع حالة إشباع وهمية في ثقافتنا، والأخطر أنها تكرّس المكرّس على حساب ما يمكن التقاطه خارج ما هو متوفر لدينا.
ليس الكتاب الجماعي ولا سيما الفكري سوى ظاهرة في بداياتها، وبالتالي فالمشرفون على هكذا مشاريع ينبغي أن يتفطّنوا إلى ثغراتها، وأن يحوّلوه إلى كتاب جماعي بالفعل لا أن يكون مجرّد مساهمات تدور في فلك موضوع موحّد، وبهذا الشكل لن يتطلّب الأمر أكثر من تجميع عدد من النصوص على عنوان إلكتروني، ومن ثم يتحوّل إلى كتاب على روزنامة دار نشر.
العربي الجديد