الكتب “الحرام” في الكنيسة: ضلال.. وخلافات شخصية؟/ جرجس فكري
ما الذي يخيف الكنيسة إلى هذه الدرجة؟
يقول الكتاب المقدس: “تضلون إذا لا تعرفون الكتب”، لكن السلطة الدينية لها معايير أخرى في هذا الموضوع. فمن يقرأ ويعرف الكتب، يُدرك ويسأل، وبالتالي قد يتحول إلى معارض في المستقبل، لذلك يخوض بعض قادة الكنيسة، معارك ضد مئات الكتب والكتّاب الذين يواجهون عاصفة من الجدل والتحذير من مؤلفاتهم والهجوم والمنع والاتهامات لهم بــ”الهرطقة” أي نشر تعاليم مخالفة للدين. وهناك قائمة تضم كتباً حذّر المجمع المقدس، وهو السلطة الروحية الأعلى في الكنيسة الأرثوذكسية، الأقباط، من قراءتها وتوزيعها، وثمة كتب أخرى يمنعها الأساقفة والكهنة في كنائسهم التي تقع تحت مسؤوليتهم مباشرة.
ومن أبرز الكتب الممنوعة: كتب “الأب متى المسكين”، المعروف بخلافاته مع البابا شنودة الثالث – بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الراحل. فدائماً ما كان ينشب خلاف بين الكنيسة ودير الأنبا مقار الذي كان يرأسه “الأب متى المسكين”، بسبب لائحة الكتب الممنوعة للأخير، والتي ترفض الكنيسة أن تُوزع في معرضها الذي تقيمه سنوياً. وأيضاً، من الكتب الممنوعة، أعمال جورج حبيب بباوي، أستاذ اللاهوت السابق بالكلية الإكليريكية الأرثوذكسية في القاهرة، الذي عزلته الكنيسة في العام 2007 بقرار المجمع المقدس تحت رئاسة البابا شنودة الثالث، ليعود المجمع المقدس العام 2015، برئاسة البابا تواضروس الثاني، إلى التأكيد على التحذير من قراءة كتب جورج حبيب بيباوي في الكنائس.
وهناك معارك خاضتها الكنيسة، أبرزها معركة البابا شنودة الثالث ضد مؤلفات الأب متى المسكين، وقد خصص عظات للرد على مؤلفاته مثل “كتاب الكنيسة والدولة”، حيث أتهم الأب متى المسكين بأنه هاجم الكنيسة ومنح معارضيها الفرصة للنيل منها. كما تعرضت مذاكرات الأنبا غريغوريوس، أسقف البحث العلمي، والتي تضمنت رسائل هجومية ضد البابا شنودة الثالث، ومنها رسالة قال فيها الأنبا غريغوريوس للبابا شنودة “إن تصرفاتك يا أنبا شنودة تشير إلى انك تجمع من حولك أناساً بشكل حزبي، وقد كان المأمول إن تكون للكل ولا تشجع على الحزبية الخاصة”، لكن هذه المذاكرات أفرج عنها بعد وفاة البابا شنودة الثالث.
ويرى الباحث القبطي مينا أسعد كامل “أن الكنيسة الأرثوذكسية تخوض معاركها الشرسة ضد التعاليم التي تراها خاطئة، وتتعالى في بعض الأحيان الأصوات التي ترى هذا مصادرة لما أسموه حرية الفكر والتعبير، وتنقسم تلك الأصوات بين من يؤمن بالفكر المصادر، وبين من يعادي الكنيسة ويعترض لأجل الاعتراض فقط”. ويدافع أسعد عن الكنيسة قائلاً إن “منع الكنيسة لعدد من الكتب حق مشروع لها، وذلك حفاظاً على أبنائها من التعاليم الخاطئة، وهذا ليس درجة من درجات محاكم التفتيش، طالما أن الممنوع كان خارجًا عن السياق الديني الصحيح، ولا بد أن ننتبه إلى أن القرارات الكنسية لم تنص أو تستخدم كلمة (مصادرة) بل دائمًا ما تحدثت عن (التحذير)، فالكنيسة تترك الحرية للقارئ: اقرأ إن شئت، ولكن إعلَم أنها تعاليم خاطئة.. ولم تتدخل الكنيسة في كتب للطوائف الأخرى، حتى وإن هاجمت الأرثوذكسية بفجاجة، طالما أنها لم تتجاوز أسوار كنيستها إلى كنائس الأرثوذكسية، فالتحذير ومنع التداول فقط لمن يتسرب إلى مكتبات الكنائس الأرثوذكسية”.
ويضيف أسعد: “لم يكن منع الكتب جديدًا في تاريخ الكنيسة، بل منذ فجر المسيحية، كانت هناك الأناجيل المدعوة (أبوكريفا) وهي كلمة تعني في أصلها (غامض)، وتشير إلى مجموعة من الكتب احتوت في باطنها على تعليم خفي يخالف التعليم المسيحي الحقيقي، ويطلق عليها شعبيًا اسم الأناجيل المزيفة، حيث اكتشف المسيحيون الأوائل فساد التعاليم المضمنة في هذه الكتب وأوقفوا قراءتها وتداولها، والكنيسة تمارس حالياً الدور نفسه، تحذر من الكتب المخالفة، وترد عليها. فعلى سبيل المثال في اجتماع المجمع المقدس، جلسة 29 مايو 1999، حذر المجمع من كتاب “التفسير التطبيقي للكتاب المقدس”، وسرد الأنبا إبرام أسقف الفيوم الأسباب الخاصة بمنع هذا الكتاب في كتيب أسماه “الملاحظات العقائدية واللاهوتية على كتاب التفسير التطبيقي للكتاب المقدس”، ويقول في مقدمته: “كتاب التفسير التطبيقي إصدار دار الكتاب اللبناني وجدنا فيه تفسيرًا في طابعه إيمان الكنيسة البروتستانتية، ولم يراع التفسير الأرثوذكسي”.
ويستطرد أسعد: “وفي جلسة 29 مايو 1999، للمجمع المقدس للكنيسة القبطية، قدم المجمع تحذيرًا من كافة كتب د.هاني مينا ميخائيل، وهو قبطي متواجد في إنكلترا، لأنهم وجدوا فيها مخالفات للتعليم الكنسي الأرثوذكسي، وفي جلسة 22 مايو 2010، منع كتاب أقوال مضيئة لآباء الكنيسة، وكان الكتاب من دون اسم مؤلف واضح، ونُسب إلى آباء الكنيسة، ولكن يُتداَول في الأروقة أنه من تأليف جورج حبيب بباوي ولم ينشر اسمه، وحُظر هذا الكتاب في جلسة المجمع بناء على توصية لجنة الإيمان والتشريع، التي أكدت وجود انحراف في الترجمة عمدًا من اليونانية إلى العربية في أغلب اقتباساته، وفي جلسة 26 مايو2007 حرم المجمع تعليم ومؤلفات جورج حبيب بباوي”.
ويكمل أسعد: “وفي جلسة المجمع 6 يونيه 2009 تم التحذير من كتاب: كنت أرثوذكسياً والآن أبصر، وتستمر الكنيسة في مراجعة الكتب والتحذير منها وحماية المكتبات في الكنائس من الكتب التي تنشر أفكاراً مغلوطة، وهناك وعد من البابا تواضروس الثاني والأنبا رافائيل بتصحيح الأخطاء المتواجدة في مطبوعات ما يسمى مدرسة الإسكندرية للدراسات المسيحية، والتي توجه طعناً مباشراً في الإيمان المسيحي، والطقوس القبطية الأرثوذكسية”.
ويرى المفكر القبطي كمال زاخر أنه “في عهد البابا شنودة الثالث، كانت الكنيسة تمنع الكتب بشكل واضح، لكن الأمر اختلف في عهد البابا تواضروس الثاني، وما يحدث الآن تحذير من كتب لأن البابا تواضروس، استوعب أن منع الكتب ليس له جدوى في ظل ثورة المعلومات، لكن هناك مواقف شخصية من الأساقفة وقرارات لهم في الكنائس المسؤولين عنها”. ويكمل: “من أشهر الكتّاب الذين تتعرض مؤلفاتهم لحالة الجدل والتحذير، الأب متى المسكين، والراهب سيرافيم البراموسي، وبشكل عام إن أي كتب ومؤلفات تنقل الفكر الغربي، بالتأكيد ستقابلها حالة من الجدل والهجوم لأن هناك مخاوف من الانفتاح على الغرب، وستواجه هذه المؤلفات أسهل اتهام، هو الهرطقة، وبالتالي حصار الكاتب وكتابه وترهيب القارئ من قراءته”.
ويكمل زاخر “أن هناك كتباً للأب متى المسكين تتعرض لحالة التحذير والجدل مثل كتاب العنصرة وغيره، وأيضاً مؤلفات الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي، وذلك بسبب الحملات العنيفة التي وجهت ضدهما، وانعكست على مؤلفاتهما”.
ويؤكد إسحق حنا، عضو التيار العلماني “أن ظاهرة منع الكتب كانت في عهد البابا شنودة الثالث، خصوصاً كتب الأب متى المسكين، بسبب خلافات شخصية من جانب الأول، لكن البابا تواضروس الثاني رجل متفتح إلى حد ما، ولم يمنع أي كتب حتى الآن، وإن كان هناك تضييق على الكتب أو منعها فسيكون ذلك من قبل الحرس القديم ورجال البابا شنودة الثالث، مثل الأنبا بيشوى مطران دمياط، والأنبا روفائيل أسقف وسط البلد، والأنبا أغاثون أسقف مغاغة، فهم ما زالوا يصرون على إتباع ممارسات التضييق وحصار الكتب في كنائسهم”.
المدن