الكرد السوريون بين مطرقة النظام وسندان المعارضة
هوشنك اوسي
الموقف الكردي من الانتفاضة السوريّة، لم يكن بذلك القدر من الوضوح والحزم والحسم، قياساً بحجم المشاركة العربيّة السوريّة في الانتفاضة. وقد يتأتّى ذلك من منسوب التحايل والالتفاف الموجود لدى المعارضة العربيّة من حقيقة وطبيعة الوجود الكردي في سورية واستحقاقاته القوميّة والوطنيّة دستوريّاً في سورية. وإذا كان النظام السوري، يرفض، حتّى الآن، الاعتراف الدستوري بالشعب الكردي في سورية، (3 ملايين)، كثاني قوميّة في البلاد، وتضمين وصون حقوقه السياسيّة والثقافيّة في الدستور، ينحسب هذا الرفض على معارضي النظام أيضاً. وتجلّى ذلك بشكل صارخ، في ما سمّي بمؤتمر المعارضة السوريّة في مدينة أنطاليا التركيّة، ثم في مؤتمر بروكسل، اللذين طغى عليهما التأثير والطابع والمزاج الاخواني. ذلك أن جماعة الأخوان المسلمين، التي كانت سيّدة القرار والموقف في المؤتمرين، مستقويّةً بدعم حزب العدالة والتنمية، رفضت بشكل قاطع، تضمين البيان الختامي المطلب الكردي، في كليهما: «الاعتراف الدستوري بالشعب الكردي كثاني قوميّة في البلاد وصون وتضمين حقوقه»، وأجبرت المؤتمرين على إدراج موقفها من الكرد السوريين، في البند الرابع من البيان الصادر عن مؤتمر انطاليا، على الشكل التالي: «يؤكد المجتمعون أن الشعب السوري يتكون من قوميات عديدة، عربية، كوردية، كلدو آشور، سريان، تركمان، شركس، ارمن، وسواهم. ويؤكد المؤتمر على تثبيت الحقوق المشروعة والمتساوية لكافة المكونات في دستور سورية الجديد، وفي اطار وحدة الوطن السوري وعلى اساس الدولة المدنية القائمة على ركائز النظام الديموقراطي البرلماني التعددي». ولعلّ رخاوة موقف الكرد الحاضرين في هذا المؤتمر، وعدم تمثيلهم الحقيقي للحراك السياسي والثقافي والاجتماعي الكردي السوري، جعلهم طوع أمر الاجندة الإخوانيّة في ما يخصّ الحال الكرديّة السوريّة، المختلفة تماماً عن الحال الأرمنيّة والشركسيّة والتركمانيّة… من حيث عمق الوجود التاريخي والكثافة السكّانيّة والدور المحوري، في صوغ تاريخ سورية القديم والمعاصر، مع شديد الاحترام للمكوّنات الوطنيّة السوريّة السالفة الذكر.
وجهة النظر هذه، لا تتأتّى من نزوع أو تعالٍ عرقي أو قومي، بل من فداحة الهواجس التي تعتمل الذات الكرديّة السوريّة من مخطط التيّار الإسلامي لسورية ما بعد نظام الأسد، إذا عطفنا على ذلك موقف الإخوان الرافض لمبدأ علمانيّة الدولة أيضاً، ومساعي التفافها على ذلك، عبر طرح مفهوم الدولة المدنيّة التعدديّة الديموقراطيّة، على مؤتمر انطاليا، ومصادقة المؤتمر على المفهوم الأخواني، ومنح الجماعة التفويض لتحديد مصير الدولة والنظام السياسي ـ الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ الثقافي، لسورية ما بعد نظام البعث!. وهنا بالذات، مكمن الخطورة الأشدّ، في مؤتمري أنطاليا وبروكسل. وكل مؤتمرات المعارضة التي ستلي مؤتمر أنطاليا، في بروكسل وغيرها، مع بقاء السطوة الأخوانيّة، ستكون هوامش على متن القرار والموقف الإخواني الذي فرضته ورسّخته الجماعة في مؤتمر اسطنبول، ثم أنطاليا وبروكسل.. ذلك أن مؤتمرات اسطنبول وأنطاليا وبروكسل، كانت إخوانيّة المزاج والهوى والميل، بامتياز. ووجود الكرد وبعض الوجوه العلمانيّة المحسوبة على «إعلان دمشق»، كان لزوم الديكور والاستثمار.
وحين استعاض الاخوان المسلمون مبدأ علمانيّة الدولة بمدنيّة الدولة، لم يطالبهم أحد، بإيراد مثال عن دولة مدنيّة في هذا العالم، من دون أن تكون علمانيّة. ذلك أن العلمانيّة، شرطٌ شارط لمدنيّة الدولة وديموقراطيّتها ودستوريّتها وتداول السلطة فيها، من دون تحيّز أو تمايز لقوميّة على أخرى، ودين على آخر، أو شريحة او طائفة أو تيّار على آخر. فمن غير المعقول انتشال الدولة في سورية من مستنقع الاستبداد والفساد والأمن والعسكر والشبيّحة، ووضعها تحت وصاية المسجد والمشيخة والمراجع الدينيّة. ومن هنا، فإن علمانيّة الدولة، هي حصانة للمجتمع ومكوّناته من سطوة آل الحكم وصون للدستور والقانون من التسرّب الديني والطائفي والجهوي إليه.
قياساً على ما سلف، المعارضة الكرديّة في سورية، لم تكن بتلك الخبرة والقدرة والجدارة على إقناع أو فرض حقائق الحال الوطنيّة الكرديّة السوريّة على المعارضة العربيّة السوريّة، نتيجة الهشاشة الكامنة فيها، رغم ان المجتمع الكردي السوري، هو الأكثر تنظيماً وتسييساً، ورغم أن الحراك السياسي الكردي، هو الأكثر جماهيريّة من كل تفاصيل المشهد السوري المعارض مجتمعةً. إلا أن الحراك الكردي، لا يعي كيفـيّة توظيف ما يمتلكه من ركائز ومقوّمات جماهيريّة وتنظيميّة وسياسيّة في مسعى الحؤول دون فرض الاجندة الإخوانيّة التي لا تطال الشعب الكردي وحسب، بل باقي المكوّنات القوميّة والطائفيّة والدينيّة الأخرى أيضاً. في المقابل، التيّارات اليساريّة والليبراليّة السوريّة المعارضة، هي أيضاً لا تسعى لخلق حالة تحالف استراتيجي مع الحال الكرديّة بغية الحؤول من دون تمرير الاجندة الاخوانيّة، وقوعاً تحت تأثير البطانة القوميّة التي ما زال موجوداً لديها.
جماعة الإخوان المسلمين، وملاحقها وتوابعها، امتعضت من كلمة الشيخ مراد معشوق الخزنوي في مؤتمر انطاليا، لكونها طالبت بالاعتراف الدستوري بالكرد وحقوقهم، وطالبت بعلمانيّة الدولة. إلى جانب رفضها القاطع لإيراد أحد المتحدّثين عبارة «الاحتلال العثماني لسورية» في كلمته، وأجبرت المؤتمر على توجيه الشكر الى تركيا وحكومتها الاسلاميّة، ما لم يدع مجال للشك حيال التنسيق القوي بين جماعة الاخوان المسلمين وحزب العدالة والتنمية الاسلامي التركي.
في مقلب النظام الحاكم، ومنذ خمسين سنة من المناشدات التي وجّهتها الحركة السياسيّة الكرديّة من دعوات ونداءات للحوار مع النظام، اضطر الأخير، وتحت تصاعد إيقاع الانتفاضة السورية، والخشية من تصاعد الدور والمشاركة الكرديّة فيها، اضطرّ إلى توجيه دعوة لبعض الاحزاب الكرديّة (5 أحزاب) للقاء بالرئيس السوري، ليس كأحزاب سياسيّة كرديّة، بل ضمن وفد من الفعاليات الاجتماعيّة والشعبيّة من محافظة الحسكة. ورفضت الحركة الكرديّة هذه الدعوة. ما اضطر النظام الى توجيه الدعوة لأحد عشر حزباً كردياً، وبالاسم، بغية اللقاء ببشار الأسد، فوافقت الاحزاب الكرديّة، رغم أن النخب الثقافيّة الكرديّة، رفضت اللقاء مع النظام والتحاور معه، وسط استمرار همجيّة آلة القمع السوريّة في سفك دماء السوريين، وقبل محاسبة الجناة القتلة الذين تسببوا في المجازر التي شهدتها المدن السورية. وليس من المتوقّع أن تخرج الأحزاب الكرديّة بسلّة مليئة بالمكاسب من لقائها بالرئيس السوري، في حال جرى هذا اللقاء. والتسريبات الحاصلة، ان الاسد عدل عن لقاء الاحزاب الكرديّة، لأن الاخيرة طلبت تعديل موعد اللقاء (ذلك أن الرئيس، طلبه، لا ردّه له ولا تعديل عليه) على العكس تماماً، ثمة مساع حثيثة من النظام لجهة تحييد الشعب الكردي من الانتفاضة. ويبدو ذلك جليّاً في عدم استخدام العنف والرصاص ضد التظاهرات التي تشهدها المناطق الكرديّة كل يوم جمعة. وحتّى الآن، يمكن القول: لقد نجح النظام، الى حدٍّ كبير في مسعى تحييد الكرد.
على ضوء ما سلف، الكرد السوريون، بين استحالة أن تصبح المعارضة العربيّة السوريّة، ديموقراطيّة خالصة، مع وجود سطوة جماعة الاخوان المسلمين عليها، وعدم تحرر التعبيرات السياسيّة الليبراليّة واليساريّة السوريّة من النزوع القوموي العروبي، في تقاطع مع الاخوان المسلمين والنظام السوري إزاء التعاطي والحال السياسيّة الكرديّة واستحقاقاتها القوميّة والوطنيّة، من جهة، ومن جهة أخرى، بين استحالة أن ينقلب النظام السوري على نفسه، ويتحرر من الذهنيّة الاستبداديّة والسلوك الأمني القمعي في التعاطي مع القضايا السياسيّة والأزمة الوجوديّة الخانقة التي يعانيها، ومساعي النظام في التحايل والالتفاف على اسحقاقات التحوّل الديموقراطيّ الوطني العميق والجذري. وبالتالي، مع انتفاء شرط الوعي والسلوك الديموقراطي في النظام ومعارضته، ومع هشاشة وميوعة الموقف السياسي الكردي، وتهاتف بعض الكرد على مؤتمرات تحت وصاية الحكومة التركيّة وجماعة الاخـوان المسلمين السوريّة من جهة، وتهافتهم على دعوات النظام السوري للحوار، من جهة اخرى، كل ذلك يجعل الكرد السوريين بين مطرقة النظام وسندان المعارضة. والحال هذه، من العسير التكهّن بخطورة المآلات التي تنتظر الشعب الكردي في سورية، وسط عدم تبلور مشروع كردي سوري، يقطع مع وعود النظام وأكاذيبه، ويحول دون تمرير الاجندة الأردوغانيّة ـ الأخوانيّة.
[ كاتب كردي سوري ـ بروكسل
السفير