الكرسي السوري الشاغر
محمد الأشهب
انقذت قمة فاس العربية عام 1982 نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد من إدانة دولية، كادت تتحقق على خلفية الإبادة التي تعرضت لها مدينة حماة. وقتذاك هيمن الانشغال بخروج الفلسطينيين من بيروت، وتبلورت قناعات بإمكان أن يحقق مشروع السلام العربي ما لم تستطعه لاءات الخرطوم.
أصعب ما واجهه الحسن الثاني، وهو يخطو في اتجاه الدعوة إلى عقد قمة عربية، على أنقاض فشل الطبعة الأولى لأقصر حدث عربي، ميّزه تعليق القمة في جلسة افتتاحها. كان تأمين حضور الرئيس حافظ الأسد من منطلق أن لا حرب من دون سورية ولا سلام إن لم تركب قاطرته قبل الإقلاع. وروى المستشار أحمد بن سودة الذي مدّد إقامته في دمشق أنه كان مصراً على النوم في قاعة الاستقبال في القصر الجمهوري في دمشق، إلا أنه أسعفه وعد الرئيس أنه سيكون في مقدم الحضور.
تغيرت الصورة كثيراً بعد حوالى ثلاثة عقود. وأي مسؤول سوري مهما كان في هرم النظام، لن يجد من يلح في حضور بلاده في العاصمة المغربية هذه المرة. فقد قطع النظام السوري مع شعبه، قبل أن يبرع في تحقيق عزلة قاسية على الصعيدين العربي والدولي، ذهب نحوها مغلق أو مفتوح العينين، لا يهم، طالما أن النتيجة مهدت لها ممارسات سارت في اتجاه معاكسة التيار.
ليست مشكلة النظام السوري قائمة في الأصل بسبب خلافات مع العالم العربي، الذي منحه كل الفرص الممكنة لإيجاد مخرج لائق، يجنبه اتساع نطاق الإدانة المتزايدة. وليس مصدرها أن الاتصال مع العالم العربي وتحديداً أوروبا والولايات المتحدة الأميركية مقطوع الحرارة، نتيجة ما يوصف بوجود مؤامرة ما. ولكن الخطأ يكمن في عدم استيعاب الحقائق الجديدة، التي تفيد بأن الحوار على الصعيد الداخلي، وفق منهجية ديموقراطية تجمع كافة القوى الحية، وفي مقدمها المعارضة، يبقى المدخل الطبيعي السلس الى الحوار المتعدد الأطراف، مع باقي العوالم عربية وإسلامية ودولية.
عندما صنف النظام في سورية احتجاجات الشارع بأنها جزء من مؤامرة مدبرة، كان يورط نفسه في الابتعاد كثيراً عن النقطة التي تسمح ببدء حوار إيجابي مع المعارضة. وعندما راق له أن يعاود استنساخ شعارات ومقولات سبقته نحوها أنظمة عربية منهارة، من دون بذل أي جهد لاستقراء مآل الأحداث والتطورات، كان يمضي بسرعة أكبر في اتجاه المصير ذاته.
لو كان التلويح بالمؤامرات القادمة من الخارج، وتصنيف الغاضبين في مواجهة أنظمة القمع والاستبداد بأنهم من فلول المتطرفين والمصابين بالهلوسة الذين يحملون السلاح، لو كان مثل هذا السلوك ينفع، لما انتهت الفرضيات الخاطئة إلى نتائج أبعد من أن يتصورها أي نظام يتمرغ في أوحال الإفلاس والسقوط.
كل السياسات تبدأ بالإشارات. وقديماً كان المتصوفة العازفون عن ملذات الدنيا يستسلمون إلى لغة الإشارات التي تكون أكثر إيحاءً في تلمس معالم الطريق. غير أن النظام السوري مثل أي مدرسة لا تكثرت للإصغاء إلى النبضات، أضاع فرصاً عدة، لم يكن آخرها أن انسحابه من لبنان بقرار دولي، كان يعني فك الارتباط بين أوهام الأدوار الإقليمية وواقع الانشغال بما يؤرق الشعب السوري من مظالم.
مثله أيضاً لم يفهم النظام الليبي أن إلغاء العقوبات الدولية لن يكون له مفعوله، إلا في حال اقترن بإقرار إصلاحات داخلية عميقة تحقق دمج ليبيا في المحيط الدولي لما بعد نهاية الحرب الباردة. وربما أن تأثير هذه النهاية يعني أن الاستقواء لا يكون إلا بالديموقراطية والتنمية وإقرار المصالحة مع الداخل.
لا يتطلب الأمر أكثر من الالتفات قليلا إلى الوراء. وفيما أن انهيار منظومة المعسكر الشرقي قاد إلى انعتاق دول أوروبية كانت محسوبة عليه من جبروت الاستبداد والإخضاع، وسيرها في اتجاه بناء دول ديموقراطية ناشئة احتضنتها أوروبا الغربية، فإن الإشارات القوية التي تلقاها العالم العربي، لم تسعف أنظمة شمولية في إدراك أن الاحتماء بوهم المؤامرات الأجنبية لا يزيد عن إتلاف معالم الطريق. إذ تكون بلا مخرج وبلا أفق.
أدت الجامعة العربية ما عليها وأكثر، بقدر كبير من الصبر والأناة وضبط النفس. ولم يكن وارداً أن تغض الطرف عن ممارسات أنظمة معاندة، لم تستوعب هواجس التغيير. فالجامعة ذاتها تغيرت، وهي تتقمص الالتزامات الجديدة التي ترتبت عن موجة الربيع العربي. والمشكل ليس في توصيف أزمة أو سوء تفاهم بين سورية والعالم العربي. ولكنه يتجسد في أزمة نظام لا يريد أن يتغير.
ليس يهم الاختلاف في الشكل بين واقع هذا النظام أو ذاك. فالرسميون في مصر كانوا يرددون أن نظام مبارك ليس نسخة عن نظام زين العابدين بن علي. والليبيون المحيطون بالعقيد الراحل معمر القذافي استهجنوا الربط بين مصر مبارك ومآل القائد الثوري الذي سقط صريع غضب الثورة. ولا يعني انفلات الفرصة الأخيرة من نظام بشار الأسد سوى أن عمى الألوان يؤدي الى اللبس وعدم التمييز.
وإذا ترك النظام السوري كرسيه شاغراً في اجتماع الرباط، فالأكيد أن هناك من يملأ ذلك الفراغ الذي يوجد في مقر اللقاء بل في قلب دمشق.
الحياة