الكنيسة السريانية تنضم الى انتفاضة السوريين
سليمان يوسف يوسف
منذ استقلال الدولة السورية الحديثة، في اربعينات القرن الماضي،التزمت مختلف الكنائس السورية بـ”الحياد الايجابي” من قضية الحكم والنظام السياسي، بغض النظر عن طبيعة هذا الحكم وكيفية ادارته للبلاد.طبقة الاكليروس كانت تبرر موقفها هذا بالحرص على ابعاد الكنيسة عن التجاذبات السياسية التي كانت تشهدها الساحة السورية من جهة، وتجنبها غضب السلطات من جهة أخرى. وليس من المبالغة القول، بأن “المؤسسات الكنسية”، كما المؤسسات الاسلامية، الحقت بأجهزة الدولة السورية حتى أضحت جزءاً منها،تخضع لمشيئتها، الى درجة أن السلطات الأمنية كانت تكتب “الخطب الدينية” ايام الأعياد والمناسبة وحولت الكنائس الى منابر وأبواقاً دعائية للنظام،خاصة في ظل حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي حكم سوريا لمدة ثلاثة عقود بطريقة دكتاتورية كانت أقرب الى “حكم الفرد”.
لا شك، أن استسلام الكنيسة، كمؤسسة دينية واجتماعية، لمشيئة الحاكم. شجع الحكومات السورية على تهميش المسيحيين وابعادهم عن المشاركة السياسية الحقيقة في ادارة البلاد وعلى ابقائهم مواطنين من الدرجة الثانية. بيد أن الأزمة الراهنة، وتصاعد حركة الاحتجاجات المناهضة للنظام والخوف على السلم الأهلي، دفعت بالكنيسة السريانية،(أم الكنائس الآشورية والمشرقية عموماً وذات الأرث الحضاري السوري العريق)، لخرق أو كسر قاعدة “الحياد الايجابي” والخروج عن “صمتها السياسي” الذي التزمت به طيلة الأشهر الماضية من عمر الانتفاضة. فعلى غير عادته وبخلاف التوقعات، أرسل، الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم (البطريرك زكا عيواص الأول) الذي يأخذ من العاصمة دمشق مقراً له، رسالة مهمة الى الرئيس بشار الأسد قال فيها ” نرى أن زيادة مساحة التعاطي مع الحريات العامة، وتجذّر الوعي بين أبناء الوطن الواحد، يُسهم في إغناء تعددية ثقافاته وأطيافه، كي يبقى الجميع أوفياء للوطن الواحد الذي نريد أن يكون دائماً سيداً مستقراً كريماً وحراً يستظل تحت سقفه كل السوريين على أن تتوفر لهم التشاركية في الممارسة الديمقراطية لحرية المعتقد، والتعبير عن هواجسه ومكنوناته، التي تحقق المزيد من الكرامة والمواطنة المنشودة”.
وصف العديد من المراقبين رسالة البطريرك هذه: بأنها من أهم الرسائل التي وجهت إلى الرئيس بشار الأسد منذ انطلاق حركة الاحتجاجات في آذار الماضي. أهمية هذه الرسالة لا تأتي فقط من قيمتها السياسية والجرأة الغير معهودة من رجل دين مسيحي في هذه المرحلة الصعبة والحساسة التي تمر بها سوريا، وانما أيضاً من مكانة ووزن هذا البطريرك السرياني على الساحة الوطنية والاقليمية والدولية،كذلك من الثقل البشري والاقتصادي والثقافي لنحو ثلاثة مليون مسيحي سوري.
قراءة دقيقة لرسالة البطريرك زكا الى الرئيس بشار،خاصة لما تخفيه بين سطورها وكلماتها،نجد بأنها تنطوي على مواقف سياسية لافتة من تطورات المشهد السوري. فمجرد خلو الرسالة من أي مديح أو اشادة بالحكم القائم،يقرأ سياسياً على أنه تعبير عن عدم رضى بهذا الحكم وعدم ارتياح لطريقة تعاطيه مع الأزمة الوطنية المتفجرة.بتعبير آخر،أن مجرد عدم اشادة البطريرك زكا بالقيادة السورية وتأكيده على ضرورة “الوفاء للوطن الواحد”- وهو(البطريرك) الذي لم يترك مناسبة من غير أن يمتدح قيادة الرئيس بشار- يعني أن البطريرك ومن خلفه “الكنيسة السريانية” بدءا باعادة النظر بموقفهما من الأزمة الراهنة وبما تروج له السلطة حول حركة الاحتجاجات والتظاهرات المناهضة للنظام.لا بل يستشف من رسالة البطريرك، بأن ثمة تضامن وتعاطف من قبل الكنيسة السريانية مع انتفاضة السوريين وتأييد لمطالبها المحقة والمشروعة.
وما يعزز هذا الاعتقاد والقراءة السياسية لفحوى هذه الرسالة،عدم تضمينها، ولو تلميحاً، دعوة لأبناء الكنيسة السريانية بالوقوف الى جانب القيادة السورية والنظام القائم،فضلاً عن أن البطريرك لم يطالب في رسالته من سريان سوريا (بعدم المشاركة في التظاهرات والاحتجاجات المناهضة للنظام).والاشارة المهمة الأخرى في رسالة البطريرك، أنه لم يقل(كما تقول وتروج له السلطة) بوجود “مؤامرة” على سوريا و لم يصف المتظاهرين بالمندسين والمخربين والارهابين.وهذا يعني ضمناً، أن البطريرك يحمل النظام مسؤولية تفجر الأزمة، وينبه لمخاطر اصراره على رفض الاستجابة لمطالب السوريين المتمثلة بالحرية والديمقراطية والكرامة.
عموماً، أرى أن رسالة البطريرك زكا وما تضمنته من مواقف سياسية،جاءت منسجمة ومتوافقة الى حد كبير مع المزاج السياسي الشعبي، أو بالأحرى مع الرأي العام للمجتمع السرياني(الآشوري) والمسيحي عامة،الداعم لانتفاضة السوريين والمؤيد لمطالبتهم بانهاء الاستبداد وتداول السلطة والانتقال بسوريا الى دولة مدنية ديمقراطية. حقيقة أن تناول “الحالة المسيحية” والحكم على موقف المسيحيين السوريين من الأزمة الراهنة،كما ذهب البعض، بالاستناد الى مشاركتهم في الاحتجاجات، فيه الكثير من التبسيط والتسطيح لموقف الشارع المسيحي من قضية الحكم والنظام السياسي في سوريا.اذ يخطئ من يفسر “الصمت المسيحي” على أنه موقف داعم للنظام ومناهض لانتفاضة الشعب السوري.والا علينا أن نقبل ونسلم بمزاعم السلطة وادعائها، بأن غالبية الشعب السوري هم من مؤيدي النظام، لطالما هذه الأغلبية مازالت تلتزم الصمت وترفض النزول الى الشارع والمشاركة في الاحتجاجات المطالبة باسقاط النظام. طبعاً،كنا نتمنى أن تكون رسالة البطريرك زكا الى الرئيس بشار بمستوى الحدث وأكثر جرأة في تشخيص الأزمة السورية وأكثر صراحة وشفافية في دعمه وتعاطفه مع الانتفاضة السورية الباسلة.وكان يفترض بالبطريرك السرياني زكا أن يطالب وبقوة باعادة الاعتبار “للحقبة السريانية” لسوريا التاريخية، التي شطبها القوميون والشوفينيون العرب من كتب التاريخ، التي تعلم في المدارس.سوريا التي أخذت اسمها عن (السريان)، سكان بلاد الشام الأوائل.
كاتب سوري.. القامشلي
ايلاف