الكولومبي ألفارو موتيس بطله ‘ماكرول الغافييرو’: كاتدرائية ترسب في أعماق المحيطات
محمّد محمّد الخطّابي
غرناطة محمّد محمّد الخطّابي: بعد صمت طويل، عاد الحديث مؤخرا في إسبانيا، وفي مختلف بلدان أمريكا اللاتينية عن الكاتب والشّاعر الكولومبي ألفارو موتيس، الصّديق الحميم لبلديّه غابرييل غارسيا ماركير، يحتلّ موتيس مكانة مرموقة في عالم الخلق والكتابة في حقلي الرواية والشّعر على حدّ سواء،حتى أصبح من أبرز الرّموز الإبداعية السّاطعة في سماء الآداب الإسبانية، وفي العالم الناطق بهذه اللغة الواسعة الانتشار، إلى جانب أبناء جلدته المكسيكيين أوكتافيو باث، وكارلوس فوينتيس، والأرجنتينييين خورخي لويس بورخيس، وبيّو كاساريس، والتشيليين بابلو نيرودا وخورخي إدواردز، وسواها من الأسماء الكثيرة الأخرى اللاّمعة في فضاء الإبداع الأدبي الأمريكي اللاّتيني المتنوّع والمتعدّد الإهتمامات . (*)
هذا الرّجل الرحاّلة المغامر المسافر الحالم والبحّار، هذا المبدع لعوالم أدبية متنوّعة، وخالق شخصيّات خيالية تجري مصائرها وهواجسها مع الريّاح وعلى أنغام وقوافي الأشعار والقصص والحكايات والأساطير الغريبة.. هذا الكاتب الذي تتميّز رواياته بذكاء خارق، وتطبعها عواطف جياّشة، وروح مغامرة متجدّدة حيث يقدّم لنا من خلال كتاباته فلسفته في الحياة ونظرته إليها، ومواقفه منها، ومشاعره حيالها على لسان شخصية أدبية فريدة وهي شخصية ‘ماكرول ألغافييرو’ في روايته الشهيرة ‘عبده بشورالحالم بالسفن’، التي جعلت من ألفارو موتيس كاتباً ذا شهرة عالمية منذ أن وضع أوّل كتاب له بعنوان ‘الميزان’ (عام 1947) الذي كان يبشّر بولادة كاتب كبير، ثمّ في كتابه ‘عناصر الكارثة’ (1953)، إذ ظهر اسم الشخصية الأدبية الخيالية الغريبة الأطوار ماكرول الغافييرو الذي خلّده في عالم الآداب الاسبانية، هذا البطل الدائم في ثماني روايات متتالية الذي ظل شبيهاً ‘بكاتدرائية ترسب أو ترقد في أعماق المحيط’ على حدّ تعبير رئيس كولومبيا الأسبق والكاتب الأديب ‘بيليساريو بيتا نكور’. من روايات موتيس ‘ثلج الأميرال'(أمير البحر) ( 1986)، و’إيلونا تصل مع المطر'(1988)، وأمير البحر’ (1990) وسواها من الأعمال الإبداعية الأخرى في عالم القصّة والشّعروالدراسات .
أصوات وشهادات
وماكرول الغافييرو هذا مسافر يمتطي صهوة جواده كفارس مغوار يجوب عالم الخيال، ويسبح في سديم الذاكرة وهو يعكس بشكل أو بآخر مشاعر ولواعج موتيس نفسه. إنّ بطله يتطلع إلى سبر كل مجهول، وتجاوز كل الحدود، وإختراق أو إجتياب كل الآفاق وهو يقطع البحار الواسعة، ويزور مختلف الأصقاع النائية، والعوالم المعروفة والمجهولة على حدّ سواء باحثاً عن نفسه أو عن خياله أو عن ظلّه، أو عن ذاكرته أو عن فراديسه الضائعة، وهو يجرّ معه آلاف القرّاء الذين يقتفون أثره في شغف ولهفة وتطلّع وفضول. وعنه يقول مخترعه موتيس: ‘إنه حتى وإن كان شخصية من نسج الخيال إلاّ أنّه قد أصبح مستقلاً عن صاحبه’، إنه شخصه الآخر الذي يثير له غير قليل من الفتن والقلاقل والمحن والمشاغل حتى وإن كان موتيس هو منها براء! وتغدو حياته في هذا القبيل شبيهة بحياة سرفانتيس نفسه الذي عاش وواجه هو الآخر متاعب مريرة، وتجارب مرعبة سواء في حياته الواقعية أو في حياة شخصياته الأدبية وعلى رأسها بطله ‘دون كيخوته دي لا مانشا’ (والكلمة الأخيرة من الإسم العربي المنشأ). سموتيس رجل غارق في عالم المدارات،تائه في دهاليز المتاهات، إمتهن العديد من المهن والأعمال في مختلف انحاء ألعالم، حيث عمل مديراً لشركة تأمين في كولومبيا، ومسؤولاً للعلاقات العامّة لشركة الطيران ‘لانسا ‘، كما عمل في شركة للبترول في بلده عام 1954 حيث هاجرمن بلده كولومبيا أو فرّ هارباً ـ من تهمة اختلاس ـ إلى المكسيك على إثر مشاكل مالية عرفتها هذه الشركة، ثم وقع في يد العدالة وتم سجنه لمدة 16 شهراً عرف أو إكتشف خلالها أقسى معاني المرارة، وأعتى ضروب المعاناة.
وعنه يقول الباحث الاسباني خوسيه غارسيا فيلاسكو ‘إنهّ أحد أكبر الأصوات الأدبية في القرن المنصرم، وإنّه لشرف كبير أن تجرجر أيّة جائزة أدبية من أيّ نوع أذيالها إليه وليس العكس’! . ويقول الناقد فيكتوريانو غارسيا ‘إنّ أسطورة بطله ماكرول، الذي ما زال يسبح في ثبج بحر مغامراته تلخّص لنا مفاتيح وأسرار أدب موتيس وهي: اللغة الشخصيّة الخاصّة به التي يتميّز بها هذا الكاتب الحماسيّ والملحميّ والروائيّ، ثمّ قدرته الفائقة على الخوض في عالم الخيال الذي يتحوّل على يديه إلى واقع معيش ملموس، أو على العكس من ذلك، قدرته على سبك وتشكيل الواقع وتحويله إلى خيال طليق ومجنّح قادر على التأثير والأخذ بمجامع القرّاء من أي نوع أو في أيّ صقع كانوا، هذا إضافة الى تكوينه الثقافي الواسع والمتنوّع الذي يثري به عالمه الرّوائي الذي يتجلّى لنا فيه بشكل واضح إنعكاس لشخصيات شكّلت نوعاً من الانشغالات لدى الكاتب، حيث نجد في هذا العالم سان لوي عاهل فرنسا، نابليون، فليبي الثاني، وفراديسه بولينسا، السّاحل الإغريقي، مرآة الأندلس وإشعاعها الحضاري الوهّاج، هذا كما تطفو على سطح خياله شخصيات أخرى عديدة لا حصر لها تشرئب بأعناقها إلينا من بين الصفحات، وهي شخيات تركض أبداً إلى جانب ظلّ ماكرول مثل ‘إيلونا’ وفلورإستفيث، وويتا، وعبده بشور، اللبناني الطائر المغامرحول العالم،الحالم بالسفن، والحبّ، والبحر، والسّماء، والمدن، والنساء. إّنّ ألفارو موتيس كاتب خبير وعارف بأحداث التاريخ وظواهره، وتضاريس الجغرافيا ووهادها، ومواقف المرافئ النائية ومراسيها، والشرق العربي وحضارته، وثقافته،وسحره، وعطره، وخباياه.
ويقول الشّاعر المكسيكي خوسّيه إميليو باشّيكو: ‘لعلّه الكاتب الأميركي اللاتيني الوحيد الذي أمكنه أن يضع عملاً أدبياً رائعاً في قطري الشعر والرّواية، فقد أمكنه أن يواجه أو يستكمل في آن واحد هذا العالم أو ذاك، بل لقد أمكنه أن يزيد هذين العالمين ثراء وإشراقاً، ذلك أنّ القول بأنّ جميع إبداعات موتيس هي أعمال شعرية يعني ذلك أننا ننتقص من إبداعاته الرواية والعكس صحيح، والحقّ إنّه روائيّ من طراز رفيع، كما أنّه أحد كبار شعرائنا المحدثين في الوقت ذاته، إنّ أعماله تجوب البحار بحثاً عن المغامرات الإنسانية في عوالم تهطل فيها أمطار بروكسل على الأودية الإستوائية، وهو بين الشجيرات المتداخلة ومزارع القهوة المتشابكة يقيم لنا قصور مدينة البندقية الجميلة التي ما أن تعلو بناءاتها في الفضاء حتى تغرق في بحر الأدرياتيك !.
ويضيف باشّيكو: ‘إننا منذ المأساة الإغريقية نعرف أنه ليس هناك مفرّ ولا مهرب لنا من التعاسة والشقاء، إنّ الروائي مارسيل بروست، الذي يحظى باعجاب موتيس نفسه، كان يتحدّث عن الزّمن كما لو كان يتحدّث عن وحش ذي رأسين، فهو خالق ومدمّر في آن واحد حيث كل شيء يتقدّم نحو نهايته المحتومة، إلاّ أننا نعيش قبل ذلك لحظة إزدهار وإشراق لا يمكن قنصها أو تصويرها إلاّ من طرف فناّن مبدع مثل ألفارو موتيس’.
ماكرول: رمز أدبي معاصر
هذا البطل الذي وجد نفسه وسط الأدغال الموحشة في ليلة حالكة بين أشجار عملاقة تحيط به من كل جانب يغلفه صمت قاهر مبلول تشيعه أوراق أشجار الموز البرّي، في هذا الجوّ المرعب عرف ماكرول الخوف، الخوف من بؤسه الكتيم، من فراغه القاتل وهو يسترجع أمامه سنين طويلة من المعايشات الطويلة، تاريخا مثيرا، قصصا غريبة، مناظر خلابة تترى نصب عينيه ليلة كاملة فجرها بعيد وهو ينظر، وينتظر ويترقب إنهيار آدميته وغرقه بين لجج عالية عاتية في بحر جنونه وخبله! هذا البحّارالطّائش، والمغامرالتائه ملأه الفضول، وهدّه اليأس، تجيش بصدره مشاعر، وتدور بخلده مشاغل وتتفجّر في صدره آهات، إنه مثلما يأخذ معه موتيس إلى أبعد أصقاع الدنيا، ومراتع الخلوة وأعالي البحار، فإنه كذلك يأخذه معه إلى أعمق أغوار النفس البشرية المعذبة والمكلومة في رحلة إستغرقت زهاء خمسين سنة، بدأت شعراً ثم إنتهت رواية متداخلة متشابكة متعانقة في ما بينها.
إنّ الكاتب موتيس يوصي القارئ من خلال رواياته الثماني أنّه هو كذلك كان بحّاراً ماهراً وأنه تسلق مرّات عديدة صواري وأعمدة المراكب والسفن، وأطلق أشرعتها في الفضاء وسط التوابع والزوابع والعواصف والأعاصير والرّياح وهو يتطلع نحو الأفق البعيد ويرى ما لا يراه زملاؤه في أسفل السفينة.
ولقد شكّلت شخصية ماكرول الغافييّرو محور جميع أعماله الروائية، هذه الشخصية الأدبية الغربية الأطوار وصل بها الأمر أن ماتت في إحدى إبداعات المؤلف، إلاّ أنّها سرعان ما عادت للإنبعاث من جديد في أعماله الأخرى وذلك بعد أن هدّده أحد خلاّنه وهو الكاتب والشّاعر التشيلي غونسالو روخاس، بأن يرفع ضده دعوى في إحدى المحاكم إذا لم يعمل على بعث بطله مرّة أخرى. وهكذا سرعان ما عاد ماكرول إلى الظهور من جديد على صفحات أعمال موتيس، عاد أكثر قوّة ونضارة ومغامرة وخبرة في شؤون البحار والترحال، يرتاد البيوت السيّئة السمعة في كل المرافئ والموانئ التي ترسو فيها سفنه، ومع ذلك هو قارئ جيّد، ملتهم للمخطوطات القديمة، وكتب الرّحلات والمغامرات والتاريخ. ولقد أصبح ماكرول بشخصيته هذه الفريدة رمزاً أدبياً معاصراً في لغة سرفانتيس وهو ليس بالضرورة ‘الأنا الآخر’ لصاحبه، كما أنه ليس بالضرورة ناطقاً باسمه، إلاّ أنّه خلاصة آلام وآمال وأحلام دارت برأس موتيس ذات ليلة أوذات يوم.(قام بترجمة هذه الرّواية باقتدار إلى العربية صالح علماني).
بين ماركيز وألفارو موتيس
إعترف الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (نوبل في الآداب) أنه ما كان له أن يكتب أيّ عمل من أعماله الأدبية الناجحة لولا أنّها لم تحظ منذ البداية بتزكية صديقه ألفارو موتيس منذ أمد بعيد، حيث كان مركيز يقوم بقراءة بواكير أعماله عليه أو يقصّها له ثم بعد ذلك يعمل على نشرها فيما بعد. ولقد أهداه ذات مرة قصّة ‘بيدرو بارامو’ للكاتب المكسيكي خوان رولفو وهو يقول له: ‘خذ وتعلّم !’. وإعترف بعد ذلك غارسيا مركيز أنّه منذ قراءته لرولفو إستفاد الكثير حيث يعترف صراحة في أحد عروضه عن ألفارو موتيس بمناسبة بلوغ هذا الأخير السبعين من عمره ـ إنه بقراءة رولفو لم يتعلم فقط كيف يكتب بشكل آخر، بل تعلم كذلك أن تكون عنده دائماً قصّة جاهزة مغايرة حتى لا يحكي ما كان قد كتبه من قبل. ويقول مركيز: ‘وكما أدخلني ألفارو موتيس في هذه المحنة فقد أخرجني منها كذلك حيث أنني منذ أن كتبت ‘مائة سنة من العزلة’ كان يتردّد على منزلي كلّ ليلة تقريباً على إمتداد 18 شهراً، وكنت أحكي له الفصول التي أنهيت كتابتها وألمس إنطباعاته وإنعاكاسات ما قرأته عليه، حيث كان يصغى إليّ باهتمام وحماس بالغين، وكنت أغيّرفي كتاباتي وأضيف . وكان أصدقاء موتيس يحكون عليّ هذه القصص بنفس الطريقة التي حكيتها له، وفي بعض الأحايين كنت أنسب لنفسي بعض إضافاته’. ويشير ماركيز إلى أنّ موتيس منذ ذلك الوقت ‘كان هو أوّل قارئ لأصول ومخطوطات أعماله، وكانت بعض أحكامه عليه قاسية ولكنها في الوقت نفسه كانت معقولة. ولقد أفضت هذه الأحكام في بعض الأحيان إلى موت أو هلاك ثلاث قصص من قصص ماركيز في سلة المهملات ! ويضيف ماركيز إنّه يجد في العديد من أعماله كثيراً من تأثيرات ألفارو موتيس، بل إنّه يجد فيها موتيس نفسه.
(*) يؤكّد الكاتب الزّميل أمجد ناصر في كتابه الشيّق ‘رحلة في بلاد ماركيز’ ما ورد في هذا المقال من إعجاب ‘ألفارو موتيس’ بالعرب وتاريخهم وثقافتهم ومعرفته لهم وإعجابه بهم، يقول في ذلك: ‘تفصح رواية موتيس عن معرفة عميقة بالعالم العربي جغرافيا وثقافة، وتدهش القارئ معرفته بالعالم العربي مدناً وتاريخاً وثقافة. وتتميّز روايات موتيس بأنّها لا واقعية سحرية فيها كما هو معروف عن أدباء أميركا اللاتينية، فهو من الأدباء الذين يكتبون حياتهم وخبراتهم عبر سرد مناسب لهذه الحياة وتلك الخبرات اليومية. سرد غير ملحمي، غير غنائي. غير شامل’..
القدس العربي