الكومبيوتر قدر الكتابة لكن لا مفر من الحنين …والمخطوطات إلى أدراج النسيان
قد يصعب فصل صورة الكاتب العالقة في مخيلتنا عن الورقة والقلم، اللذين شكّلا طويلاً الإطار «الرسمي» لصورة هذا الكاتب أو أيقونته. لكنّ الثورة التقنية التي شهدها زمننا حوّلت الثابت وهدمت ما كان راسخاً قديماً في وعينا. هكذا توارت أشياء استقرّت طويلاً في حياتنا لتحلّ محلها أشياء مستحدثة دخلت فجأة في صلب يومياتنا. هذه التحولات الطارئة استهدفت ميادين الحياة كافة، فلم تسلم منها حتى الكتابة التي حاول الكثيرون من أبنائها النأي عنها بأنفسهم وطقوسهم المحصورة داخل عوالهم الحميمة.
وبعد ارتباك جلي خلّفته التكنولوجيا الحديثة في نفوس كتّاب ارتبطوا غالباً بنوستالجيا الحبر والورق، حدث شرخ فصل الكتّاب بين جيلين: جيل الكمبيوتر وجيل القلم والورق. لكن الكومبيوتر سرعان ما غزا عالم الكتّاب على اختلاف مواقعهم وشـواغلهم فاستسلموا لطقوسه مرغمين أولاً لأنه بات الأداة الأحدث التي لم يعد ممكناً الفرار منها.
أصبح الكومبيوتر قدر الكتاب الجدد، الشباب والمخضرمين، وحتى بعض «المحافظين» الذين قاوموه في البداية تصالحوا معه منفتحين على تقنية الكتابة العصرية ومتخلين عن النوستالجيا او الحنين الى بياض الورق ورائحة الحبر. الا ان بعضهم لم يتخل بتاتاً عن الورق والحبر بل ازداد تمسكهما بهما، ربما لأنهم لم يتمكنوا من اللحاق بهذه الطريقة الحديثة في الكتابة التي تتطلب جهداً في البداية او لأنهم شاءوا الحفاظ على طقوسهم الخاصة في الكتابة.
هل كسر الكومبيوتر مفهوم الطقس الذي طالما هيمن على الكتاب وعلى الكتابة أم أنه خلق طقساً جديداً هو طقس الكتابة على الكومبيوتر؟
قاسم حداد
> الكتابة هي آلية يصوغها الكاتب بالأداة التي يستخدم. الأمر الذي يستطيع الكاتب أن يبتكره كلما تغيرت أداته، قبل الكمبيوتر، توهمنا أننا لن نستطيع الكتابة بغير القلم. الآن، أعتقد أن هذا وهم يضاهي وهم الكاتب المدمن على التدخين، بأنه لا يمكن أن يكتب حرفاً من دون السيجارة.
كل تلك عادات نرثها وتفرضها تقاليد نخضع لها بلا تبصر. لكن ما إن نتعرض للتجربة الجديدة حتى نكتشف الأوهام.
منذ نهاية الثمانينات، بدأت أولاً بعادة نقل المسودة الأولى من الورق الى الكمبيوتر وأعمل على تبييضها. ثم بعد فترة، شعرت بأن آلة الرقن بدأت تستجيب لأصابعي. كان شعوراً فذاً فعلاً. أحببت ذلك ورحت أكتب مقالاتي، وبعد فترة صرت أرى في شاشة الكمبيوتر ما يغري لرسم الكلمات ومحوها. لم تكن أمراً عادياً رؤية الكلمات تولد وتتحرك مثل أحلام الطفل. وسرعان ما اندلع الشعر هناك.
بدأت أعتاد على الكتابة على آلة الرقن (الكيبورد) برشاقة المرتبك أولاً، ثم بعد ذلك صار الأمر متعة زاخرة بالمكتشفات. فكل آلة وكل أداة لها جمالياتها. بالنسبة إلي، يحدث كثيراً أن أرى في بعض أخطاء الرقن، التي تنتج أثناء كتابة المسودة، كلمات جديدة تفتح لي في النص أفقاً إضافياً نوعياً غبر متوقع. عندما تحاول مثلاً، أن تكتب كلمة/ ليلى/ وكلمة/ المجنون/، فتكتب ملمة ثالثة غير متوقعة هي «ليلون»، تكتشف شيئاً من جماليات الخطأ.
الآن، يمكنني الزعم بأن الكمبيوتر قد نقلني من طريقة الى طريقة أخرى بالغة الاختلاف والعملية والفاعلية أيضاً. بعد فترة، اكتشفت أنني لم أعد أكتب جملة مفيدة بخط واضح. لاحظت بشاعة خطي.
وأذكر أنه عندما صادف أنني بدأت أكتب مسودة كتاب «طرفة بن الوردة»، استخدمت بغتة القلم والورق على رغم توافر الكمبيوتر، لم أعرف المسألة إلا بعد أن قطعت وقتاً طويلاً في المسودة. صرت أتأمل خطي وهو يبدأ يتحسن ويتوضح. حتى أن تلك التجربة أضافت إلي سبباً فنياً ثانياً لكي أعمل على فكرة المخطوطة الفنية لكامل كتاب «طرفة بن الوردة». لذلك، أعتبر هذه التجربة نتيجةً من معطيات علاقتي الجديدة مع الكتابة على الكمبيوتر.
أعتقد أن كثراً من الكتاب أخذوا يعتادون، حدّ الولع، على الكتابة مباشرة على الكمبيوتر. وفِي هذا ما يساهم في تحرير الكائن الإبداعي من أوهام التقاليد والتقليد.
هاشم شفيق
أنّ فقدان الحميمية ولوازمها، من طقوس وتقنيات كتابية وأسلوبية، هي التي قد غابت في أجواء الطقس الجديد وعوالمه في الكتابة على الكومبيوتر، وأعني بذلك القلم ونوعه وحبره الخاص وطريقة مسكه والسيطرة على زمامه، ثم يأتي في ما بعد الورق ونوعه ولونه ومقياسه ورائحته ودرجات النقاء التي تتوافر بين نوعية وأخرى، يُضاف إلى ذلك كله الطقس الكتابي، أين تكتب في المطبخ أم في غرفة المكتب أم في الصالة، ومن ثم ما يتبع هذا الطقس من حوافز وعادات ومقبلات تدفع بالذاكرة كي تنشط، والجو كي يتتبَّل بروائح وأبخرة القهوة والشاي والسجائر وما شابه، هكذا كان الطقس القديم للكتابة بالورق والقلم، وهذا ما كنت أفعله دائماً، هو الجلوس في مطبخ البيت مع فنجان قهوة وسيجارة، دقائق من التأمل ثم الشروع بالكتابة، أما الآن فإنني منقسم إلى شطرين، الكتابة على الكومبيوتر مباشرة في حال كتابة المقال الأدبي والنقدي والنثري الذي يختص بأحد شؤون الكتابة، مع القهوة وغياب السيجارة التي تخليت عنها نهائياً، أما الكتابة الإبداعية وأعني الشعر والرواية، تحديداً، فإني ما زلت وفياً للكتابة بالقلم الرصاص بالنسبة للشعر. أما الرواية، وأخص «أشهر من شهريار» و «البرج الأحمر»، التي صدرت نهاية العام الفائت، فإني قد كتبتهما على الورق أيضاً وبأي قلم يتوافر بين يدي، ثم تمت بعد ذلك عملية النقل إلى جهاز الكومبيوتر.
إبراهيم عبدالمجيد
> لقد اختبرت الطريقتين، الكتابة على الورق والكتابة على الكومبيوتر، فأنا من الجيل الذي اعتاد الكتابة بالورقة والقلم، ولكن مع انتشار الوسائط الإلكترونية وتطورها وثبوت فاعليتها وقدرتها على اختصار مجهود كبير وتوفير وقت يكفي لإنجاز أعمال أخرى، قررت التعامل معها. منذ سبع سنوات بدأت أستجيب لهذا التطور، فكتبت آخر أربع روايات على الطريقة الحديثة. أجلس إلى الكومبيوتر لأكتب، بدأ الأمر مع رواية «هنا القاهرة» وكانت أول ما كتبته بهذه الطريقة. نجح الأمر فعاودت ممارسته عبر الرواية التالية «أداجيو». وأنجزت، بالطريقة نفسها، كتابي الحائز جائزة الشيخ زايد للعام الماضي «ما وراء الكتابة: تجربتي مع الإبداع». وأخيراً روايتي «قطط العام الفائت» عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة. عندما كتبت بالطريقتين وجدت أن الأمر يرجع أساساً إلى فكرة التعوّد. نحن تعوّدنا في الماضي على الكتابة على الورق، وعندما مرت سنوات توطدت فيها علاقتي بالتكنولوجيا وجدتني أمارس الأمر بطبيعية وفي يسر تام. الكتابة لها مذاق خاص يشعر به الكاتب في أي وسيلة يكتب، وفي النهاية تبقى الوسيلتان فاعلتين وجيدتين من وجهة نظري.
خليل صويلح
> أقول بحسم إن الكتابة على شاشة الكمبيوتر، كانت أشبه بمصباح أديسون، ليس في وداع الورق فقط، إنما في إضاءة طريقة التفكير أيضاً. الآن لا أستطيع أن أنجز فكرة نهائية باطمئنان إذا لم تشع على الشاشة. هكذا كتبت أربع روايات على الكمبيوتر مباشرة، ما كان لها أن تنتهي على النحو الذي كُتبت به لو أنها مكتوبة يدوياً. لكنني في المقابل سأفتقد المسودات الورقية والشطب والأسهم التي كانت تملأ الهوامش بوصفها إضافات لاحقة على النص. الكمبيوتر مطبخ مفتوح على تعديل النكهات نظراً لسهولة الإضافة والمحو، والقص واللصق، والإطاحة باسم شخصية لمصلحة اسم آخر بكبسة زر واحدة. لست من أولئك الذين ينظرون برومانسية إلى انتهاء عصر رائحة الحبر على الورق واختفاء مسودات خط اليد، وليس لدي وهم بيع هذه المسودات مستقبلاً في مزاد عالمي ما. الكتابة على الكمبيوتر علمتني الكثافة والاختزال واصطياد الخطأ بسهولة، وتنقية حقل النص من الأعشاب الضارة بمجرد نظرة واحدة بالعين المجرّدة. في المقابل أعيش رعب فقدان النص بخطأ تقني ما، أو بسبب تسلل فايروس إلى الوليمة أثناء الطهي، وصعوبة إعادة كتابتها بالشبق نفسه، لذلك أقوم بإرسال ما كتبته إلى بريدي الالكتروني على دفعات خشية ضياعه المباغت. أجل أنتمي إلى تاريخين مختلفين، روائي الورق المحتضر الذي لا يشبه روائي اليوم، وهو يجلس أمام كمبيوتره باطمئنان إلى كتابة عبارة نهائية وحاسمة.
أحمد المديني
> إلى حدود سنوات قريبة كنت أحسب تركي القلم، والانتقالَ إلى الرقن على الحاسوب ضرباً من المستحيل، لا يعدِله عندي إلا وهمي بأن التوقف عن التدخين سيمنعني عن الكتابة مطلقاً، لولا أن سخّر لي الله بالهداية شيخي وخِلِّي محمد عابد الجابري رحمه الله. الحقيقة أن انتقالي إلى الحاسوب جاء بعد سخرية من صحافي غمز من قناتي يسألني وقد طلب مني مقالة إن كنت ما زلت أخط، مثل الئك!. ثم وجدتني مع واحد من طلابي في الجامعة في موقف شعرت فيه بالحَرج، إذ ظهر عليه استغرابٌ مُريب كيف، أنا الأستاذ، أحمل أوراقي مخطوطة لمن يطبعها. وإني لا أنسى اليد البيضاء لصديقي الأديب العراقي شاكر نوري، عبر بي بتشجيع وإلحاح هذا المجاز، قضيت فيه يعلم الله أوقاتاً ممضة وعثرات كادت تصل بي إلى اليأس، وأضعت فيها نصوصاً ثمينة عندي، إلى أن وصلت اليوم، أزعم، إلى شط أمان معقول، يبدأ من رقن أول كلمة، إلى وضع تصميم نهائي لكتابي، مع الناشر، يذهب رأساً إلى المطبعة.
لا أكتمكم أنني لم أعد أحسن اليوم الكتابة بالقلم. يسوء خطي وتتعثر كلماتي، لا تأتي. حاسوبي قريب مني قربَ حبل الوريد. وصرت أكتب بدقة ونظام ووضوح وخبرة وحبور أيضاً لم أعرفه من قبل. وأنا عادة إذا جلست لأكتب فلأدوِّنَ ما هو مكتوب تقريباً سلفاً في رأسي وبإحساسي. أتاحت لي هذه التقنية وضع ملفات، وترتيبَ خزانة، وتصميمَ مواد ومشاريعَ، خزانة متنقلة، وكل شيء. استمعت إلى مشيل بوتور يقول في حديث له قبل وفاتِه إنه لم يستطع تغيير عادته في الكتابة لأن الزمن فاتَه، وأنا والزمن في عراك دائم من التحدي، والصفحة البيضاء أمامي هي الشاشة معشوقتي وخصمي، وكلما جلست إلى الحاسوب تقول لي هيت لك، إنه أعظم اكتشاف قدمه العلم للأدب والأدباء!
نجوى بركات
> حين كتبت لأول مرة على الكومبيوتر إحدى رواياتي، تندّمت على عدم وجود مخطوطة يدوية تبقى من ثمّ، وتُظهر لي مراحل ولادة عملي. شيء حميم للذكرى عن فترة أمضيتها مع تلك الشخصيات والأحداث والعوالم، يبقى لي وحدي ولا يفك شيفرتَه سواي، قبل أن ألقي بمخطوطتي بين الأيدي الكثيرة التي ستحملها حين تبدأ رحلتها إلى القرّاء.
ومع ذلك، وجدتُ في الكتابة على الكومبيوتر أمراً يشبهني تماماً وأتوق إليه، ولم أكن أبلغه في المخطوطة اليدوية إلا بعد طبعها، للعمل عليها نسخةً ثانية. صرتُ قادرة على التكثيف مباشرة، الحذف والضبط والإصابة منذ الضربة الأولى، إذا صح التعبير، كما أمكنني التحرّك بحرية أكبر على ورقتي، تقدّماً وتراجعاً، وقفزاً وحتى تحليقاً.
اليوم، صارت الكتابة على الكومبيوتر لكل الأمور المتعجلة: مقالات ورسائل ومداخلات. لكنّ العودة إلى المخطوطة اليدوية ما عاد قابلاً للتفاوض أو للنقاش. الكومبيوتر يقتل عيني وساعديّ وظهري. هو ليس للكتابة الأولى التي تستغرق ساعات طويلة ولا يمكنني التحكم بها إذ هي التي تتحكّم بي. إنه للكتابة الثانية، «لمزمزة» النصّ والتأمّل فيه، وبخاصة للتعدّي عليه.
جبور الدويهي
> مررت بالكتابتين. اعتقدت في بداياتي أن الجمل تخرج من قلم الرصاص في احتكاكه بدفتر مدرسي مسطّر وإلى ما هنالك من مشاعر تفننتُ في روايتي الأولى «اعتدال الخريف» بوصفها: «أشتري الأقلام بالدزينة واختارها من عيار «ب» أو «ب٢»، الأول صلب ما فيه الكفاية للكتابة المترددة والثاني ضروري للصياغات النهائية…». لكن مع انتقالي الى الحاسوب وبرنامج «وورد» أدركت أن هذا كان مجرد أوهام لحظة خرجت منها نهائياً الى «الماك بوك». وها أنا بتّ عاجزاً عن العودة الى الكتابة اليدوية بسبب هامش الحريّة والاحتمالات المفتوحة التي توفّرها الشاشة ولوحة المفاتيح من محو وإضافات وبحث وكل أشكال التحكّم بالنص حتى الفراغ منه، وكل ما هو معروف من هواة هذه الكتابة التي اجتاحت العالم وصار من يكتب بيده أقرب الى صنف منقرض. أما حول تأثير هذا الانتقال في طبيعة الكتابة والأسلوب فلا شك في أننا خسرنا تراث المسوّدات والتنقيح وأفكّر هنا بالصفحات المليئة بالهوامش والتشطيب التي تركها لنا روائي عظيم مثل مارسيل بروست يبقى ان التأثير في الأسلوب في حاجة الى مزيد من مرور الزمن وما أشعره في شكل أوليّ وفي ما يخصني ان ما أكتبه يكتسب رشاقة أكثر وميلاً الى التكثيف والاختزال. إنها ثورة كبيرة ربما تغيّر تدريجاً من مضمون الكتابة وتواصلها وقد نشهد (بفضل نمط الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي) بروز نوع أو أنواع سردية جديدة. لا مفرّ من النوستالجيا لكن المستقبل يبدو مثيراً.
منصورة عز الدين
> «أمارس الكتابة على الكومبيوتر منذ سنوات. أجد فيها توفيراً للوقت وأستطيع خلالها إنجاز الكثير، ولكن علاقتي بالورق لم تنقطع تماماً؛ فأنا أحتفظ دوماً بمفكرة صغيرة أودعها ما يخطر لي من أفكار، وما يتراءى لي من تعديلات على الكتابة ومحاولات للربط بين الفصول. أكتب فصولاً كاملة على الكومبيوتر ولكن لا بد من المفكرة، التي إن حدث ونسيت اصطحابها معي، أشعر بشيء ينقصني. الكتابة عبر الوسائط الحديثة لها مذاق أيضاً، وليست الكتابة على الورق وحدها هي التي لها مذاق خاص. الكتابة ممتعة على أية حال، وكما قلت؛ لا أكتب على الورق ولكن، في الوقت ذاته، عندما تأتي مرحلة المراجعة، أطبع النص كاملاً، وأقوم بالحذف والتعديل، ومع مفكرتي التي تساعدني على ترتيب أفكاري، فالأمر لا يقتصر على طريقة في الكتابة معينة، ولكن الكاتب يحاول الاستفادة من كل شيء يمكنه من إنتاج نص جيد.
ميسون صقر
> علاقتي بالوسائط الإلكترونية مختلفة إلى حد ما. بدأت علاقتي معها من قديم، تحديداً في التسعينات، فكنت أستخدمها في مزاولة عملي في الإخراج الفني، وتجميع المواد التي أحتاجها عندما كنت أعمل في المجمع الثقافي الإماراتي. هكذا بدأت علاقتي بالكومبيوتر تتطور، قراءةً وكتابةً. عندما شرعت في كتابة روايتي «في فمي لؤلؤة» (نشرتها الدار المصرية اللبنانية العام الماضي) أنجزت معظمها على «الآي فون»، وكنت أرسل المقاطع التي أنتهي منها إلى بريدي الإلكتروني، ثم أعود لأجمع الفصول وأعيد قراءتها ومراجعتها من جديد. وجدت متعة في الكتابة بهذه الطريقة، ولكن حدث اختلاف بين «الآي فون»، والكومبيوتر الشخصي، ما اضطرني إلى بذل مجهود كبير. تعلمتُ من التجربة ألا أكتب بوسيطين إلكترونيين، فإما «الآي فون»، أو الكومبيوتر.
محمد سليمان
> ما زلت حتى هذه اللحظة أسيراً للقلم والورق، ولم أنتقل مطلقاً إلى مرحلة الكتابة عبر الوسائط الإلكترونية التي شاعت في الآونة الأخيرة. أظن أنني لا أستطيع كتابة قصيدة من دون القلم والورق، بما في ذلك خطوات إعادة الكتابة وما يحدث خلالها من حذف وتعديل، وإعداد مسودات كثيرة. لا يمكنني في أي حال من الأحوال، ممارسة ذلك عبر الوسائط الحديثة. لي عاداتي الخاصة في الكتابة. أجلس على سريري لأقرأ وأكتب، فأستخدم الورق كما يحلو لي. لديَّ مشكلة مع الوسائط الحديثة، فحتى القراءة الإلكترونية لا أتمكن منها، سواء كانت قراءة كتب أو قراءة صحف. حتى الآن لا بد من شراء الصحف الورقية كي أستطيع قراءتها. ما زلت حتى الآن مزعناً للورق، ولم أفكر لحظة في هجره والاتجاه لممارسة التقليد الجديد في الكتابة، بينما يتعامل أولادي عبر التقنيات الحديثة في الكتابة ويمارسونها بسلاسة وراحة تامة. اعتدت منذ نصف قرن على طريقة معينة في القراءة والكتابة وصار من الصعب أن أتخلى عنها بعدما ارتبطت بها طويلاً. منذ عشرين عاماً، وبينما كنت في أميركا، استفزتني فكرة الآلة وسيطرتها على الإنسان وسيطرة المادة على الروح، فكتبت ديواناً شعرياً تحدثت فيه عن الآلة وكيف صار الإنسان خاضعاً لها. فالكل هناك كان يتعامل في شكل آلي مع أجهزة الكومبيوتر. رأيت وقتها أن هذا التعلق بالآلة يعود إلى كونه حالة مرضية تفرض على الإنسان شعوراً بالغربة والعزلة والوحشة. التعامل مع الورق والأقلام والثرثرة حول النشاط الإبداعي يدخل الناس في حال من التعاطف بعضهم مع بعض، والشعور بالدفء الإنساني. الآن، تمكنت هذه الوسائط من عزل الكثير من البشر عن بني جنسهم. حتى في داخل المنزل الواحد، تجد الأسرة جالسة كلٌّ ينظر في هاتفه المحمول أو حاسوبه الخاص، ولا يتكلمون معاً. اتسمت العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية عموماً بالبرود والجمود. أتصور أن الأمر أكبر من فكرة المقارنة بين الكتابة على الورق أو الاعتماد على الوسائط الحديثة في عملية الكتابة، فأنا أشعر أن العالم صار مهدداً، يفتقر إلى الدفء والشعور بالآخر. من مساوئ النشر الإلكتروني، على رغم سهولته، هو أنه يخدع الكثيرين.
بول شاوول
> قديماً، كانت هناك آلة كاتبة. لم تكن الشاشة موجودة بعد. الورق يتداخل مع الحديد والمعدن. كبار الأدباء، وبخاصة الروائيين، استخدموا الآلة الكاتبة، غير أنّ طبيعة الاستهلاك في العالم الجديد (العولمة) تعتمد في شكل أساسي على الإلغاء، وهنا تكمن المشكلة. الكمبيوتر ألغى الآلة الكاتبة مثلما ألغت المكواة الكهربائية مكواة الفحم مثلاً. هكذا بدأنا نفتقد الأشياء تباعاً، قلم الرصاص والممحاة والمبراة والدواة والكاسيت والفيديو… كأنّ العالم يُستبدل. إنه زمن الانقراض والزوال، والأدقّ قولاً زوال الجماليات. الكتابة على الشاشة تُفقد الكاتب جماليات الخط، لتصير الخطوط كلّها متشابهة، ولا تعبّر عن روح صاحبها، في وقت أن الخط العربي يعدّ من أجمل الخطوط العربية ويشكّل جزءاً من اللوحات والمنمنمات وما الى ذلك.
مع هذا، أنا لا أعترض على الكمبيوتر، وليس لي حقّ الاعتراض، وإنما أنا متمسّك بالورقة والقلم. لا أستطيع أن أكتب على الشاشة، لا الشعر ولا حتى المقالة. لا أتخيّل نفسي أكتب من دون أن أشطب وأضيف وأحذف. الشعر عندي يعني امّحاء، وأنا أحب أن أرى هذا الإمّحاء أمامي.
حين عملت في وكالة الأنباء الفرنسية، بدوام ثماني ساعات يومياً، كان مطلوباً منّا الكتابة على الكمبيوتر. تعلمّت عليه وصار جزءاً من عملي، لكنني لم أحبّه يوماً. كنت أطفئ سجائري في لوحة المفاتيح كمن يُطفئ غضبه، إلى أن قررت في صباح يوم باردٍ ومشمس أن أقدّم استقالتي من العمل بعدما رأيتُ رجلاً يتمشى بحرية مع كلبه على الكورنيش. كانت الطبيعة تدعو عينيّ الى التأمل وقدميّ الى المشي ورئتيّ الى التنفس. وبعدما دخلت قاعة العمل، وجدت، كما المعتاد، أربعين جهازاً أمامي، فأخذت أحدّق بها كأنني أتحداها. ومن ثم تناولت ورقة بيضاء وقدّمت استقالتي الى فؤاد نعيم، مدير الوكالة بفرعها العربي حينذاك، وكتبت له: «لعنة الله على الكونسول (الكلمة التي نستخدمها لجهاز الكمبيوتر)».
منذ سنوات طويلة وأنا أكتب على الورق الأبيض، وبالقلم ذاته. الورقة والقلم هما جزء من عالمي المحاصر بالحميميات: فنجان القهوة، السيجارة، الرصيف، المقهى… بصراحة، أنا لا أحتمل أن أمشي من دون كتب وصحف ومجلات. أن تطير مني الأوراق وألحق بها، أن تتبعثر كتبي وأعيد ترتيبها، أن أخاطب الورق وأشمّه، أن أتأمّل في بياضه وأغرق فيه… وعلى رغم ذلك، يظلّ الإنترنت وسيلة معرفية ولكن لا أجد نفسي فيها. وهذه ليست ايديولوجيا أدعو اليها انما مزاج خاص، تماماً مثلما أتمسّك بالسيجارة وإن كنت لا أدعو الى التدخين. لكنّ السيجارة هي سيرتي، تماماً مثلما الورقة هي ايضاً سيرتي الحقيقية.
سلوى بكر
> أنا من النمط القديم الذي تربطه علاقة قوية مع القلم، ولا يستطيع ممارسة الكتابة من دونه، على رغم أنّ الكتابة عبر الوسائط التكنولوجية الحديثة توفر وقتاً كبيراً، ولكني لا أمارس الكتابة عبرها. أنا أكتب حتى الآن على الورق وأظن أن الكتابة على الورق تتيح امام الكاتب فرصة التأني والتفكير، ذلك لأن رسم الكلمات بالقلم يعتبر أمراً مختلفاً. لذا فإنني لا أحب الوسائط الحديثة ولا أتعامل معها. أفضل أن أرسل خطاباً إلى أحدهم، ولكن في شكل ورقي، أما إرساله في شكل إيميل مثلاً، أو رسالة على فايسبوك، فلا يروق لي. طقوس الكتابة عندي أجمل بكثير عند التعامل مع الورق. أراها أكثر إمتاعاً للكاتب عموماً. أتخيل فكرة استقبال خطاب ورقي يبعث به أحدهم ولحظة فضّ الغلاف، والرغبة في الاحتفاظ به كذكرى جميلة تدل على شخص ما، ترجع الى قراءة ما خطَّت يداه في وقت سابق وكيف رسم كلماته على طريقته الخاصة. قد يرجع ذلك إلى كوني آتية من جيل بعيد. قد أكون مخطئة وقد أكون على صواب بسبب احتفاظي بموروثات قديمة شكلت وعيي.
علوية صبح
حتى الآن ليست لدي أية علاقة بالكمبيوتر وعالمه. مازالت طقوسي في الكتابة على ما هي عليه. حتى الدفتر الذي اختاره هو نفسه، والقلم ايضاً. أشعر بعدم الأمان إن تغيّر أي شيء في طقوسي اثناء الكتابة، فأنا من الناس الذين يألفون عاداتهم، ولا سيما في ما يخص طقس الكتابة. وحتى الآن، أحس بأنّ لديّ رهاباً من الإلكترونيات. أشتغل اليوم على رواية بالطريقة التي اعتدتها منذ زمن، أدوّن على الورق ثم أشطب وأحذف ثم أعيد الكتابة مرّة جديدة وهكذا. وأنا أعلم جيداً أنّ الكمبيوتر يوفّر علينا كثيراً من الوقت، من حيث نقل المقاطع أو تعديل الكلمات أو الإلغاء. لذا قد أتعلّم الكمبيوتر بعد الفراغ من هذه الرواية، عسى أن استخدمه في العمل المقبل. أما الآن فيصعب عليّ تغيير طقوسي قبل أن انتهي منها. أحياناً، أطرح هذا السؤال على نفسي. هل يمكن فعلاً أن أدخل هذا العالم؟ هل تسحرني الشاشة أكثر من الورقة؟ لا أعرف. ولكن ما أنا متيقنة منه تماماً أنني أحتاج أن أغرق في إلفة الأشياء كي أشعر بالأمان، وهو شعور أحتاجه كثيراً خلال رحلة الكتابة. فأنا أخاف التغيير. أعشق الورقة والحبر الذي ينسكب عليه من دون أي جدار أو مسافة. فالورقة البيضاء والقلم جزءآن من تفكيري وجسدي. هكذا أنا. ربما تقولين إنني مازلتُ على الحطب.
سعيد الكفراوي
> أنا من جيل ورقي. لم نعرف سوى الورق وبسبب علاقتنا الطويلة به أصبح أساساً لمهنتنا وعنواناً لها. شخصياً؛ أستخدم التقنيات الحديثة في إرسال رسالة أو إجابة عن سؤال، أما أن أجلس وأكتب نصاً أدبياً على تلك الوسيلة فلم يحدث بعد، وحتى الآن علاقتي بها مثل علاقتي بالرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب. أنا من جيل تربى على الورق وعلى قراءة الكتاب. أمضيت أكثر من نصف قرن على تلك الحال، ولهذا تصيبني التقنيات الحديثة بالرعب. نحن عجائز، والعجائز أبناء الماضي، والماضي لم يعرف تلك الوسائط التي نرى أنها تهمشنا وتهشمنا. أحياناً أكتب نصاً وأضعه على صفحتي ليقرأه الناس، وأدهش حين أجده متداولاً على صفحات أصدقاء فايسبوك، من دون تدخل مني، فأتركه كما هو، إلى أن أتحمس لكتابة نص آخر، بالطريقة ذاتها.
عبدالمنعم رمضان
> «لا علاقة تربطني بالتكنولوجيا على الإطلاق. أنا متخلف جداً في هذا الأمر، لا أعرفها ولا أجيدها ولا أتعامل معها مطلقاً. أنا عاشق للورق، فهناك ألفة وعلاقة حميمة تربطني بالورق وأخشى زواله، في الوقت الذي تستفحل الوسائط الحديثة. مثلاً، صار موقع فايسبوك مزرعة لإنتاج الفاشيين؛ أنت الآن تكتب رأيك على صفحتك الشخصية فتجد شخصاً لا يروق له ما كتبت ويختلف معه، فيقوم بعمل «بلوك» لك فلا تصبح في قائمة أصدقائه، هكذا ببساطة وفي يسر تام. في الأمر خطورة كبيرة لأن مثل هذا التصرف يشي بعدم تقبل الآخر وتعصب للرأي الواحد فمن ليس معي فهو ضدي بالتأكيد. الأمر يختلف عندما يتعلق بالكتابة في الصحف والنشر الورقي؛ فأنا أكتب مقالة مثلاً أهاجم فيها كاتباً ما، فينشر كاتب آخر في العدد التالي مقالة يفند فيها رأيي وينقده. هنا، لم أحرمه من إبداء رأيه كما أنه لم يفعل. النشر الورقي والكتابة الورقية تجعلك تتقبل الآخر تدريجياً. أجد كل يوم، شخصاً يخبرني أنه قام بعمل «بلوك» لآخر بسبب اختلاف في الرأي، فاستنتجت رأيي هذا، حيث صارت الوسائط التكنولوجية الحديثة وعلى رأسها الإنترنت بمثابة مزرعة للفاشيين. أنا أعتبر أن النشر الورقي والصحافة الورقية مكاناً لمنع الفاشية، في حال كونها صحافة حرة. في مجتمع فاشٍ مثل مجتمعنا تديره سلطة فاشية، لا بد أن ينعكس الأمر عليك كفرد محدود، فتصبح صورة للفاشية العامة التي تجتاح مجتمعك.
الحياة