راشد عيسىصفحات الثقافة

الكيماوي ..في اللوحة/ راشد عيسى

 لم يخطر في بال الفنان التشكيلي السوري وليد المصري يوماً أن يعرض لوحاته في الشارع. تلك التي اعتادت أن تسكن كبرى الغاليريات، وترتاد مزادات الفن التشكيلي، وعلى رأسها كريستيز وسوذبيز، وتحوز أسعاراً عالية قياساً على ما اعتدناه في الفن السوري، سلكت أخيراً طريقاً أخرى، حين آثر الفنان أن يعرض في واحدة من ساحات باريس، في إطار تظاهرة للسوريين الغاضبين بسبب استخدام السلاح الكيماوي لإبادة الأبرياء المطمئنين في غوطة دمشق الشرقية.

 لوحات قلقة تحت مطر متردد، يسندها متطوعون متحمسون وجدوا أنفسهم في مواجهة أسئلة العابرين بخصوص اللوحات والمناسبة. بعض هذه اللوحات من مجموعة حول المفقودين بدأ الفنان برسمها أثناء الثورة. يقول: “إنها حكايات المفقودين الضائعين بين حكايتين، حكاية النظام، وحكاية الثورة”. هنا فكّر المصري باستخدام علامة دائرة التلفزيون، تلك التي نراها حين إنهاء البث التلفزيوني، يريد أن يقول إن هؤلاء المفقودين هم رهن التعتيم والتكاذب وطمس الحقيقة. تلك “الدائرة  التلفزيونية” صارت عنصراً تشكيلياً هنا، لا مجرد رمز يحيل إلى مغزى. هناك إذاً “الغنى البصري الذي يجعل اللوحة تقع بين البوستر (الملصق السياسي) واللوحة التشكيلية. منطق الفن أنك تتجه لداخلك أكثر، بينما البوستر يتوجه للناس، ويتابعهم”. يقول المصري لـ”المدن”، ويضيف “كل ما اتجهت لداخلك لامست أكثر إنتاجاً فنياً صافياً ونظيفاً”.

 ما يجمع بين اللوحات أيضاً علامة استخدام الكيماوي الصفراء بتحويرات متعددة. فجأة “سطوة الموت هي السائدة، ولا تترك قيمة لشيء”، يقول الفنان ويشرح كيف دهمته أخبار الكيماوي، فترك الأعمال التي كانت قيد الإنجاز على حالها، مكتفياً بإضافة دائرة الكيماوي الصفراء.

 لم يتردد الفنان وليد المصري بخياره الانتماء إلى الثورة السورية، بل كان يترقبها على ما يقول، ومع ذلك فقد جاء كل شيء صادماً ومروعاً بالنسبة إليه. هكذا انقطع عن إنجازه اليومي لأربعة أشهر، غير دارٍ بما يفعل. هنا أسعفه موضوع الشرنقة. يقول :”الثورة في سوريا كانت رد فعل على القتل. كان الموت هو الطريقة التي يبني الناس بها بلدهم. أنا أخذت رمز الشرنقة من عبارة للشاعر الراحل إياد شاهين: كفنوها يا ليتها شرنقة، هكذا جاء في لوحاتي ذلك الشكل الممزوج بين الشرنقة والجثمان”.

 حين نسأله كيف تغير مشروعه الفني بين تلك اللوحات التي تعكس تجريباً فنياً محضاً، التي تمحورت طويلاً حول موضوع وحيد هو الكرسي، إلى ما يقترب من البوستر يقول: “مشروعي تغير فعلاً بعد الثورة. كل شيء كنت أفكر فيه نسف تماماً. لا أتخيل أبداً أن أحداً من السوريين بقي يفكر كما كان قبل 15 آذار”. ثم يتساءل: “كيف يمكن أن تفكر في الفراغ والعناصر التشكيلية، وأنت ترى فيديوهات المجازر تلك؟”.

 لم يعرض الفنان وليد المصري أعماله الجديدة إلا في إطار فعاليات حول الثورة السورية، “فالمزاج العام هنا، في باريس، هو مزاج سياحي إلا في ما ندر”. لقد عرض لمرة واحدة من قبل في باريس في معرض مشترك “من أجل مخاطبة الفرنسيين، وكان الإقبال كبيراً، وكان المعرض فرصة للجدل والتفاعل مع الناس”.

 لكن يبقى الشارع بالنسبة إليه هو الاكتشاف “لم يبق أحد في سوريا لم ينزل إلى الشارع. ثبت أنه ليس كل ما نبحث عنه نجده في جمهور الغاليريهات”. لم يتعاط الفنان وليد المصري من قبل مع السياسة، لكنه يعتبر اليوم أن معرضه في الشارع هو الأهم في حياته: “أكثر ما أستطيع فعله أن أنزل بلوحاتي إلى الشارع كي يعرف الناس ماذا يجري في سوريا”. ويختم:: “إنها طُعم بصري كي أُدخل المشاهد في تلك الفاجعة الإنسانية”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى