الكيملك/ مصطفى أبو شمس
كل الشباب الذين التقيتهم في ذلك اليوم، وعلى طول الطريق إلى صيدليتي في ساحة القرية حيان، كانوا يتحدثون عن اقتراب المعركة إلى ريف حلب الشمالي، وأن الجيش قد أصبح قاب قوسين أو أدنى.
لا طعم للخوف في هذه القرية الصغيرة، حيان القرية الوحيدة التي صمدت أمام داعش. شابٌ صغير كان يردد كلماته أمامنا جميعاً، لن يستطيع أحد أن يقتلعنا من جذورنا.
– «الوضع منيح، ودشّمنا ورفعنا ساتر من جهة باشكوي».
– «بس لازم المدنيين يطلعوا، أستاذ ليش ما رحت».
صوت القصف كان ككل يوم، والطائرات لا تغادر الاجواء، وأصوات القبضات هي كل ما يخترق الصمت، مرصد أبو جميل: «الخنزير نفذ وباتجاه العودة ، الله لا يردو».
– «نفذ فوق رؤوسنا يا أبا جميل».
– وكأنه يسمعهم «يالله يا أبطال المضادات».
يضحكون من جديد، ينتبهون لوجودي: «أستاذ والله مالك شغلة هون، روح ورجاع بعد كم يوم».
تنظر في وجوههم، تنظر إلى علب الدواء والغبار على الرفوف، تنظر إلى القرية التي احتضنتك بعد أن دمر برميل صيدليتك في حلب. تنظر إلى كرمهم واحتوائهم للموت والحياة، تشعر أن «أرض الجواني» كل ذاكرتك الجديدة، وتحسّ أن الرحيل اقتلاعُ قلبك من جديد.
أوصلني أحد أبناء القرية إلى إعزاز، وهناك وجدت آلاف الأشخاص مثلي ينتظرون، كان التعب قد نال من الجميع فافترشوا التراب وتداروا في أعقاب الصخور والأشجار.
نساءٌ وأطفالٌ وشيوخٌ وشبابٌ لن تقرأ في وجوههم بعد الآن ما كنت تراه قبل بضعة أشهر، كلهم ينظرون نحو جهة واحدة وينتظرون «المهرّب» الذي سيقلّهم إلى تركيا، كلنا خدعنا ذلك الرجل، كلنا حلمَ بأن يقطع الحدود؛ يمشي مئة متر ثم يصبح في «أرض الأحلام… تركيا»، أرضٌ لا مكان فيها لأصوات الطائرات والبراميل والجبهات، ولا مكان فيها للّحى والتقسيمات الإدارية والدينية.
صداقةٌ غريبة تتولّد في اللحظات الخائفة، فتجعلك تأنسُ بمن لا ترى وجهه، النّفَس كان يكفي حتى تشعر بالطمأنينة. لعله مثلي كان يرتدي معطفاً طويلاً رماديّ اللون، ولمحْتُ أنه يرتدي بنطالاً قماشياً.
في عام 2013 في الشهر الثالث كنتُ هنا، وكنت أرتدي بنطالاً قماشياً أيضاً، لم يلتفت إلى الصوت، «ولكن ما الضير» قلت لنفسي وأكملْت. أتعرفُ يا صديقي كيف كانت البداية من هناك: «شعرتُ أنّ قلبه يدق بسرعة، فصوتُ نَفَسِه الكسول بدأَ يصلُ إلى سمعي».
حيثُ حلب قطعةٌ من الجمر الخائف على حضوره، كأن تكون له حصة الأسد من القتل والتدمير والخوف، كما حدث في الثمانينيات حين بدأت حركة الإخوان المسلمين نشاطها في هذه المدينة، فوجدَت آذناً صاغية وقلوباً مترعة بالأمل، وانتفضت لتصرخ بكل ما فيها من قوة وفكر وسلاح.
لا أعرفُ ما حدث فعلاً، فقد كان تداولُ هذا الحديث كمن يلعب بعداد عمره، وكنتُ وقتها صغيراً. فيما بعد بدا كل شيء بصورةٍ غريبة وتعتيم قاتل، وشعارٍ صباحي نردده في المدارس كل يوم:
«عهدنا: أن نتصدى للامبريالية والصهيونية والرجعية، ونسحق أداتهم المجرمة، عصابة الإخوان المسلمين العميلة».
لم يقوَ أحد الآباء على أن يحدثنا أن الشعارات كاذبة، وأن التاريخ يكتبه الأقوياء كما يقولون. أبي مثلَ كل الآباء عاصرَ هذه الفترة، وكان يهرب من الحديث عن رفاق الطفولة والشباب الذين تعفنت اجسادهم في سجن تدمر أو صيدنايا أو مقابر جماعية لا يعرفها أحد. ربما لم تكن التهمة سوى أن أحدهم البريء ذكرَ اسم بريءٍ آخر، ليقتادوه إلى مجهول لا تستطيع بعدها حتى السؤال عنه.
حلب المدينة المترقبة الناظرة بحذر لما يحدث، كانت كل بيوتاتها لم تشفَ بعد من الذاكرة. في حديثٍ عابرٍ مع سائق تكسي مسن وقتها، كنت أتحدث بصوت عالٍ مع أحد أصدقائي، ربما كبر سنه ولحيته الخفيفة البيضاء وبقايا التعب والإرهاق على وجهه، جعلتني أتمادى في الحديث بحرية أكثر عن ميزان القوى، وعن الجهل والتخلف والفقر الذي يحتوينا.
أوقفَ سائق التاكسي سيارته، وطلبَ مني أن أنزل من السيارة، بصقَ في وجهي: «أنت يهودي مؤمرك كلب».
ضحكتُ وقتها، ربما ظن أني أختبر وطنيّته ودفاعه عن القيادة الحكيمة. أكملتُ طريقي سيراً على الأقدام، وقطعتُ معبر الموت لأصل إلى ضفة الحياة.
الطيرانُ الذي لا يكفّ عن إزعاجنا كان عاجزاً أن يقتل الحلم فينا، والحرية تسري مع الشهيق والزفير، حلمْنا وقتها كيف سيكون الوجه الجديد لمدينتنا. «المنافي هنا» أشرْتُ بيدي إلى الجانب الآخر من الحدود، كانتْ سخرية وكانوا يحسدوننا على البقاء، يحسدوننا على الأمل العالق في وجوهنا، المخيمات كانت وجعنا وتناقضاتنا.
يسبحون في القهر والوحل:
– «ما الذي يجبرُ أحداً على أن يترك بيته وبقاياه وذاكرته، ويتحول إلى هذا الشعور السخيف المليء بالذل والهوان».
– «الموت»… قالها وبدا صوته أقرب إلى الحقيقة.
– «ربما يكون البقاء ضرورياً»، ضحكتُ بسخرية. التفتُ إليه هذه المرة لأصرخَ في وجهه بسؤال وجودي: «أليسَ الموت مقدراً ومكتوباً».
كل شيء كان وقتها يوحي بنضج ثوري حقيقي، المؤسسات الإغاثية، الفكر الثوري، حلم المدينة الجديدة، ورفاق السلاح أبناء البلد.
لم يجب عن هذا السؤال الغبي الذي أطرحه الآن، فيما أنا وهو ننتظر «المهرّب» هرباً من الموت، ورغبةً في البقاء.
كان لي حبيبة شاركتْ معنا الصحوة الأولى والمظاهرات الأولى، وحّدتنا الثورة حينها، ورجال الأمن يتبعوننا إلى أحلامنا، ومع الهتاف الأول ننسى كل شيء ونضيع في هدير الحرية غير آبهين بالموت والسجن. بدَت الحياة أمامنا كأضواء ترسم مدينة ملاهٍ لطفلٍ نسي طعم الحلوى، «أن نعيش بكرامة» كان كل ما يجول في رؤوسنا الصغيرة.
اعتُقِلَتْ إحدى صديقاتنا وبدأ رجال الأمن يبحثون عن حبيبتي فسافرتْ إلى هناك، إلى البعيد، وأشرتُ بيدي ثانية صوب الحدود التركية، ربما أخطأتُ الجهة فأنا لا أعرف القبلة إلا في بلادي، أشعلْتُ سيجارة عصبية ونفثْتُ الدخان بعيداً علّ الهواء يساعدني في التقاط أنفاسي من جديد.
هي سافرت إلى هناك، وأنا حملت بندقيتي.
«من يحمي هذه البلاد ويحررها إلا أبناؤها»، كان لا بد للفكر من قوةٍ تحميه، فالكلماتُ تضيع سدىً في هذا الجو المحقون بالبارود، والدنيا ليست عادلةً يا صديقي.
كانت الفكرة الأكثر وضوحاً وحياةً، والتي كانت تملؤنا جميعاً، أن على مثقفي هذه البلاد وأبنائها الشرفاء أن يحملوا بنادقهم، كي لا تُسرق الثورة كما سُرق الوطن. من قال أن البندقية لا تجيد الشعر، ولا تعرف خطوط الطول والعرض، وأنها لا تعرف إلا القتل والدمار. وكيف تحمي حقك ومكانك ووطنك وفكرتك إن كان عدوك أيضاً يمتلك من وحشية التاريخ ما يجعله قادراً على وأد الفكرة وصاحبها بدمٍ بارد.
ليست شهوة القتل ما كان يحركنا، بل كانت غريزة الانعتاق.
بعد أن حررّنا «اللواء 80» القريب من مطار حلب الدولي، في الشهر الثاني من عام 2013، كانت الرجالُ قصائدَ يا صديقي, والأرض حينها كانت تعني بكل مساحة متر شهيداً، وأن الحياة بدأت من هنا.
لم يكن للمدافع وقتها هذا الصوت المخيف، فكلنا كان يغني ويكبّر في آنٍ واحد، كانت اللحمة الوطنية والوجوه المشرقة تغني معاً وتكبّر معاً، كتبنا وصايانا جميعاً قبل الدخول بساعات قليلة وعانقنا بعضنا، نفثنا الدخان في الهواء وصلينا معاً لله. صوتُ صديقٍ لا أعرف الآن أين حطت به المنافي، كان يغني «عونك يا وطن يابو الحضارات».
عشرون ساعةً وتهاوت الأرض المكشوفة أمامنا، لم يكن هناك سواتر تحمينا ولا جبال. أرضٌ كراحة الكف، وإيمانٌ كجبال راسية، وتوق للحرية كان يلخص المشهد، والرصاص كفيلم «الساموراي الأخير»، يمر بجانبك ولا يقتلك، وصوت «الله أكبر» يصنعُ من قلبك طائراً.
قررتُ أن أسافر لخطبتها، ما الذي يمنعني من ذلك؟ «قلتُ في نفسي». أنا من هناك من رجال اللواء 80، من رجال حلب، من حالميها وثوارها ومثقفيها، نحن حماةُ المدينة وأحجارها.
غازي عينتاب كانت المدينة التي لا أعرفها، والتي ضمّت معظم السوريين النازحين في ذلك الوقت، وكانت تجمعاً للمؤسسات الإغاثية والإنسانية و«الثورية». ارتديتُ بنطالي القماشي، واشتريتُ حقيبةً بعجلات وطلبتُ من صديقي أن يوصلني. كان البرد شديداً، وكنا ندعو أنا وصديقي أن لا يهطل المطر، لأن «التيل» يصبحُ سبخةً من الوحل. على دراجته النارية قطعنا الطريق من حلب إلى قريته على حدود مدينة إعزاز. تخيلْ… كل هذه الطرقات كانت لنا «مساكن هنانو, المنطقة الصناعية, مدرسة المشاة, تل رفعت, إعزاز». لم نشعر بالبرد وقتها فالبلاد كانت دافئة، المهرّب «إسماعيل» كان عليه أن يوصلنا إلى شمارين، ويقطع معنا «التيل» ليوصلنا إلى سيارة تقلنا إلى كلس.
جادت السماء علينا كما لم تَجُد يوماً، وكأن طوفان نوح قد عاد مرة أخرى، وإسماعيل تركنا في أول الطريق، «كلهم كاذبون». وكان علينا أن نركض على حد قوله 500 متر لنجد السيارة في انتظارنا، ركضنا لساعة كاملة ولم يكن هناك أحد، ضحكنا في الطريق وغاصت أقدامنا في الوحل، والبنطالُ القماشي صار قطعةً من الطين. وصلنا أخيراً، أقلّنا صاحب السيارة إلى كلس، كانت قرية صغيرة، السوريون فيها لا يتجاوز عددهم أصابع الكف.
«سآل… أي حدا بيدلك على السانكو بارك»، أعدتُ مِراراً جملتها، وكنتُ أتكلّم مع السائق وكأني في حلب باللغة العربية. انتبهتُ بعدها أنه يتكلم بلغة أخرى، ضربت رأسي بيدي ولكنني لم أتوقف، أردتُ أن يوصلني إلى السانكو بارك، استعنتُ ببعض الكلمات الإنجليزية التي ما زلت أحفظها، ولكن عبثاً.
أنزلني في الكراج، وابتدأتْ رحلة البحث عن السانكو بارك. «أشّو بدك بالطويلة»، وصلتُ إلى هناك، تخيلتُ وقتها أنني أفتح القسطنطينية من جديد، عاشقٌ يقطع الحدود ويدخل مدينتها وحده، وهو يغني «بيني وبينك تيل ورا تيل».
كانت ما تزال تحمل في داخلها الصراخ القديم نفسه، والحدة نفسها، حتى تخيلت أنني سأقف وراءها ونصرخ معاً كما كنا نفعل، «السلاح والثورة المسلحة أساءت للفكرة الثورية، ستلد جيلاً مريضاً مشوّهاً»، قالت جملتها وكأنها كانت تلومني/نا.
عليكِ أولاً إن أردتِ الكلام أن أفرغ لك مخزناً من الرصاص حتى يسمعك الناس، كلنا نؤمن بأن الثورة بناء، ولكننا كنا مجبرين على هذا، كانت طبول الحرب تدق وكان علينا ألا نهدم ما في داخل الناس من أمنيات، كانوا سيموتون أو يتعفنون في السجون. كيف ستقنعين رجلاً فقد أطفاله الأربعة ببرميل عابر أن عليه أن يرسم وردة لا أن يحمل بندقية؟! أن يصرخ في وجه الظلم لا أن يقتل الظالم؟! وعندما ينتهي هذا الجحيم نحتاجكم، نعم نحتاجكم للبناء، لأطفالنا، لنا، للحدائق والمقاهي والشعر، للمساجد والصلاة والإيمان.
عدتُ من غازي عينتاب لأعيش بعدها جميع التناقضات والتغيرات في حلب، عشتها محكوماً هذه المرة. تتوالى الإمارات على كل بقعة جغرافية فيها، في عام 2014 كانت الثورة قد سُرِقَت، كنا هناك بقايا ثورة، ورجالاً قد أعياهم الدفاع عن المفاهيم التي يحملونها، كانوا يصرخون: «الوقت الآن وقت التحرير، وليس وقت الانتقاد».
وبدأت وجوهٌ جديدة وكثيرة تظهر بأحلامٍ جديدة وقوانين جديدة، كل ما في الأمر أنا لم نعد نستطيع إقناع الناس بأنها ثورة ضد الظلم.
ربما كان لطول الزمن دور كبير في ذلك، وربما كنا نحتاج لثوراتٍ داخل الثورة، وربما تَعبُ الناس قد أعيانا. لا يمكن لأي إيديولوجيا قومية أن تنتصر، فعلينا أن نركب تياراً آخر هذه المرة، علينا أن نتحول إلى الفكرة الدينية كأساس لبناء الفكرة الثورية الجديدة، هذا ما كان يُقالُ كثيراً.
ولكن من قال إننا كنا ضد الدين أساساً، كنا ضد الظلم أياً كان مصدره. صارت الحواجز في المناطق المحررة تفوق بمرات كثيرة تلك التي كانت عند النظام، وصار عليك أن ترشي لتمشي، وصار كل قائد ينصب نفسه ملكاً على بقعة جغرافية، وصرنا خوارج ومرتدين وصحوات وكفاراً وعلمانيين.
تركْتُ بندقيتي وبدأ الخوف يأكل ما تبقى من روحي، ينهش معه «أن نعيش بكرامة». وهنا الآن في كانون الأول عام 2015 كنتُ أنتظر مهرباً آخر، هذه المرة لم أجد صديقي ولا دراجته النارية، معي زوجتي وطفلي الصغير والبردُ يأكل ما تبقى من أطرافي، وأرتدي بنطالاً من الجينز علّه يكون أسهل في الهرب.
هذه المرة أهرب من مدينتي لاجئاً منفياً، صراخُ رجلٍ أيقظنا جميعاً من سكوننا، بدأ بفتح حقيبته وأخرج منها بعض الثياب وأشعل ناراً، «الولاد ماتوا من البرد».
التمّ الناس عليه، وبدأت حملة التنظير: «سيرانا الجندرمة… طفي هالنار». وهو يواصل حرقَ ما تبقى في حقيبته، وأطفالُه يجلسون قرب النار: «ما عاد بدي أدخل»، لم يبقَ في حقيبته ملابس فخلع بنطاله ورماه في النار، والتفت إلي: «قلتلي بناء وحب وغازي عينتاب… وشو كمان؟!».
أطرقتُ برأسي خجلاً، وهربت من أعين الجميع حتى زوجتي وطفلي.
صوتُ المهرّب اخترقنا: «يالله يا شباب ما في دوريات».” حملتُ طفلي، وكيس المسافر هذه المرة، كيسٌ من الخيش فيه ثيابنا لرحلة منفى لا تشبهنا، وركضنا من أجل البقاءِ هذه المرة. ربما يختلفُ طعم البكاء قهراً عنه من البرد، ساعدني البرد والأقدام الحافية على البكاء، وصلنا إلى الطرف المقابل من الحدود، بهدوءٍ أكملُ رحلتي دون أن أنظر إلى السماء، فقد آن أوان النظر إلى الأرض، واللجوء هو «ألّا تعود بعد الآن».
في الطريق إلى عينتاب استوقفتنا دورية شرطة لتطلب منا ما يثبت هُويتنا. يسمونها «الكيملك»، لم يكن لدينا هذه البطاقة، أنزلونا من السيارة وأشاروا إلى طريق العودة إلى «كلس». لم أتكلم بالعربية كما فعلتُ يوماً، اكتفيتُ بالانكسار وعدتُ إلى طرف الطريق المقابل، ركبتُ سيارةً وعدتُ إلى كلّس.
عينتاب لا تستقبل إلا الفاتحين، المهزومون عليهم أن يبقوا على الحدود.
موقع الجمهورية