اللاجئون السوريون في المفرق2.. هناك مَن انتخب بشار الأسد/ أمجد ناصر
تحقيق
لا يتطابق رأي والدي ورأي أخي خالد، ضابط الصف السابق في سلاح الطيران الملكي الأردني، الذي يعرف مخيم الزّعَتْري منذ لحظات بنائه الأولى، من خلال عمله، حتى فترة قريبة مضت، في المرافق الأمنية داخله. فهو يقول إن كثيراً من اللاجئين فيه ليسوا من محافظتي درعا والجولان بل من الذين كانوا يعملون عند أهل هاتين المحافظتين السوريتين الجنوبيتين، وهم، غالباً، من مناطق الجزيرة السورية، أو من بدو حوران الذين رأوا في اللجوء فرصة لتحسين أوضاعهم المادية! فلا يمكن، في رأيه، أن يترك الفلاحون أرضهم وبيوتهم ومواشيهم، مهما كانت الظروف، ويفرّون إلى بلد آخر.
يفيد أخي خالد، الذي يتميّز بيننا بقدر لا بأس به من الفضول، بأنَّ معظم الذين لجأوا إلى المفرق هم، إضافة الى مواطنين من محافظة درعا، من هذه القبائل على التوالي: الفواعرة، الخوالد والنعيم، التي تنتمي عائلتي إلى أحد فروعها الكثيرة الممتدة بين سورية والأردن والعراق ودول الخليج. وبالفعل، هناك العديد من العائلات النعيمية التي استقرَّت في حيّنا، أو الأحياء المجاورة، مفضّلين الحياة الضنكة خارج مخيم الزعَتْري على الحياة الضنكة داخله.
لأخي خالد رأي قد يبدو قاسياً في قضية اللاجئين السوريين، ولا مانع لديه من الجهر به على عكس الذين يظهرون عكس ما يبطنون. من نافل القول أني لا أتّفق مع رأيه، لأنَّ في ذهني تحليل آخر للمعطيات “الحقيقية” التي يقدمها. فمثلاً، هو يعتقد أن كثيراً من لاجئي المفرق لم يكن لهم علاقة بالثورة السورية، ولكنهم سمعوا عن أموال الدعم الكثيرة المقدمة للاجئين فهربوا إلى الأردن.
وبما أنه يعرف المخيم جيداً واحتك بسكانه كثيراً، فهو قادر على إعطاء فكرة غير تلك التي ترسمها صحافةٌ تمرُّ بالمخيم مروراً، كما يقول. فمثلاً، يقول إن كل الأعمال و”التجارة” التي يمكن أن يتخيّلها المرء موجودة، الآن، هناك، بما في ذلك “الملاهي” الليلية والمخدرات.
ورغم بُعد المخيم عن قبضة الأسد المباشرة، إلا أن هناك، بحسب خالد، أعداداً من الشبيحة وعناصر الاستخبارات السورية الذين يتجسَّسون على اللاجئين ويبثّون بينهم دعايات ضد الثورة، فضلاً عن تحريضهم على العداء للأردن باعتباره “يأكل” المساعدات العربية والدولية التي ترسل إليهم.
أخبرني، أيضاً، أنهم فضّوا أكثر من مشادة بين لاجئين رفع بعضهم صوراً لبشار الأسد استفزازاً لآخرين معادين له داخل المخيم. أدهشني أخي خالد عندما قال إن عدداً لا بأس به من اللاجئين السوريين، خارج المخيم، ذهبوا إلى عمان للمشاركة في انتخاب بشار الأسد، وهو يعرف بعضهم، ممّن يسكنون في حيّنا، بالاسم.
وهنا يتدخل أخي أحمد، الصحافي التلفزيوني، الذي يؤكد الواقعة، بل يقول إن طابور السوريين الذين اصطفوا للتصويت لبشار الأسد، أمام السفارة السورية في عبدون، وصل الى المناطق المحاذية لمقر السفارة وأعاق حركة السير تماماً. يخبرني أنه كان هناك في ذلك اليوم، وكان للتلفزيون المحلي الذي يعمل فيه، فريق عمل يغطي “الانتخابات”، وما يجري أمام السفارة السورية من اشتباكات بين مؤيدي الأسد ومعارضيه.
المعطيات التي حصل عليها فريقهم تفيد بأن عدداً من الأردنيين شارك في التصويت لمَن قتل ما لا يقل عن مئتي ألف مواطن سوري. وكان على رأس هؤلاء شخصيات سياسية وثقافية أردنية معروفة بعلاقتها الوطيدة بالنظام السوري، غير أن أحمد يفسّر الأمر على نحو يجعله قابلاً للفهم. فكيف يشارك لاجئون شرّدهم نظام الأسد من منازلهم وقتل وأسر العديد من أبنائهم أو أقاربهم في إعادة “انتخابه”؟
يرى أحمد أن الأمر يتعلّق بحالة الرعب التي زرعها نظام الأسد في قلوب السوريين حتى وهم بعيدون عن قبضته الأمنية المخيفة كل البعد. ليس ولاءً ولا حبّاً بمَن أودى بسورية الى مصير مجهول ذهب عددٌ من اللاجئين لـ”انتخاب” بشار في السفارة التي طرد الأردن سفيرها، بهجت سليمان، قبل أيام من “الانتخابات”، بل الخوف التاريخي.. أو الخوف على مَن تبقّى من أبناء وأقارب في سورية. هناك مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، يضيف أحمد، لم يذهبوا. حتى مَن يقيمون خارج المخيمات، الذين بوسعهم الذهاب في حرية الى عمان. مئات الآلاف لم يعد لديهم ما يخسرونه، وزادهم اللجوء كراهية للنظام الذي حوّلهم لاجئين لم يعودوا يلقون الترحيب الذي قوبلوا به في بداية اللجوء.
جدارية للحرية
رغبت في زيارة مخيم الزعَتْري. حاول أخواي أحمد وخالد أن يتدبرا الأمر مع مَن لهم دالّة على العسكر الأردنيين في مدخل المخيم. لم يكن ذلك ممكناً. أخطآ عندما قالا إني صحافي. المهمة الصحافية تحتاج الى تصريح من هيئة أردنية وأممية تشرف على المخيم.. غير وزارة الداخلية، كما فهمت من محاولات أخوي لاستصدار تصريح لي. قلنا نغامر ونذهب الى المخيم لعلّنا نجد أحداً يعرفنا هناك. ذهبنا. الطريق المؤدي الى المخيم هو نفسه الذي يؤدي الى الرويشد، نقطة الحدود الأردنية مع العراق. لم تنشأ تجارة بالقرب من المخيم. هناك بضع دكاكين ومحال ارتُجلت، كما يبدو، لسبب يتعلّق بالمخيم.
وعلى حائط أحد المحال هناك مَن رسم جدارية كبيرة، وجميلة، للحرية ـ العنقاء التي تنبعث من الرماد. هناك نقطة أمنية أردنية بالقرب من الشارع الرئيسي مدعومة بعربة تحمل رشاشاً. أخبرنا مسؤول النقطة أننا نريد أن نزور قريباً لنا داخل المخيم. لكنه رفض. قال: لازم تصريح. ذهبت محاولات أحمد وخالد لشرح الأمر أدراج الرياح. لا دخول الى المخيم من دون تصريح. هل هذا واضح؟
بدا المخيم من الشارع الرئيسي هائل الحجم. يحتل بقعة تقدّر بـ8500 دونم، مملوكة للقوات المسلحة. في هذا العراء الصحراوي المكشوف، تحوّم دوّمات الغبار مثل أعمدة لولبية صيفاً. الآن بداية فصل الشتاء، حيث تصبح درجة الحرارة ليلاً قريبة من الصفر. هناك حياة كاملة داخل المخيم، كما أخبرني خالد: مدارس، أفران، مقاهٍ، عيادات صحية، بقاليات، محال ذهب، خياطة، صالونات حلاقة… إلخ. هناك شعب يحتاج إلى نصف مليون رغيف خبز كل صباح، و5 ملايين ليتر من المياه!
ملحمة الزيتون
صادف زيارتي الى بيت أهلي في المفرق موسم قطاف الزيتون، وهو موسم يشبه امتحانات التوجيهية العامة ينتظم في مسعاه وحمَّاه الأردنيون من مختلف المناطق، مختلف المنابت، فالزيت والزيتون هما المؤونة التي يحرص كل بيت على التزوّد بها قبل حلول الشتاء. بيت بلا زيت وزيتون ليس بيتاً أردنياً. لدى أهلي نحو خمس عشرة شجرة زيتون مثمرة. ولم ينتظروا الشتوة الأولى كي يتضاعف الزيت في حبات الزيتون بل بكروا أكثر كي يحجزوا لهم دَوراً في معصرة.
المعصرة الأقرب إلينا تبعد نحو عشرين كيلومتراً الى الشرق من المدينة، وعلى بُعد مرمى حجر من الزعَتْري، وعندما وصلنا إليها عصراً، كان هناك بعض المزارعين والمواطنين الذين سبقونا. كان علينا أن ننتظر أكثر من ثلاث ساعات كي يأتي دورنا. في الأثناء، كنت أتمشى في الباحة أمام المعصرة حيث يعكف عدد من العاملات والعمال على تنقية كمية كبيرة من الزيتون اللامع، المكتنز، في مجمع بلاستيكي كبير، من الشوائب. لم يكن هناك الكثير من “الورش” في هذا الزيتون العفيّ.. لكنَّ ذلك لم يمنع العاملات والعمال الخمسة من تقليب حبَّات الزيتون حبَّة حبَّة.. فيطرحون الشوائب التي تصادفهم خارجاً.
كانت العاملات والعمال الخمسة يرتدون “شماغات” على وجوههم وقبعات على رؤوسهم ولا تظهر منهم سوى عيونهم. لم يكن ذلك تدبيراً أمنياً بل لتفادي تنشقهم الغبار، وربما مواد الرشّ الكيماوية. الوحيد بينهم مكشوف الوجه شاب في أواخر العشرينات من عمره.. رفعت عاملة، ملثّمة بشماغ أحمر وعلى رأسها قبعة بيسبول، نظرها إليّ وأنا أتحدَّث مع زميلها. أربكتني عيناها السوداوان الواسعتان اللتان كانتا، حتى تلك اللحظة، منهمكتين في متابعة شوائب الزيتون.
كان قد لفتني، وأنا أتجوّل في الساحة، آلة، قد تكون لجرد الزيتون، تحمل أحرفاً عبرية، واقفة بالقرب من هؤلاء العمال. من حديثي معه، بدا الشاب، مكشوف الوجه، ليس من محيطنا.
سألته: أنت لست من هنا؟
أنا من حمص.
حمصي؟
نعيمي.
والنعم. ماذا ستفعلون بالزيتون بعد تنقيته؟
سيصدّره أصحابه الى الخارج.
إلى أين، حسب علمك؟
إسرائيل والسعودية.
إسرائيل؟!
نعم.
باستثناء صاحب المعصرة الأردني، فإن باقي العمال الذين رأيناهم في الداخل، عندما جاء دور زيتوننا كي يعصر، هم من اللاجئين السوريين سواء الذين يتمتعون بمهارات تقنية أو ذوي الجهد العضلي.
استغرقت “ملحمة” الزيتون التي شارك فيها والدي، كرئيس هيئة أركان، يومين من القطاف والتعبئة والذهاب الى المعصرة.. وأخيراً عُصِر زيتوننا في أربع تنكات تستوعب الواحدة 18 كيلوغراما! عندما عدنا ليلا الى البيت، أبي، أحمد، خالد، وأنا، كان الشاي و”المقدوس” والزعتر واللبنة والجبنة تنتظرنا.. ولم يكن ينقص ذلك العشاء المتأخر، كي يتبارك، سوى الزيت.. الذي أحضرناه معنا وبدأ يصفو.
كان الزيت المعصور، قبل نحو ساعة، قادراً على استعادة وجه أمي الغائبة وصوتها وهي تدعونا كي “نسمّي” قبل أن نغمس خبزنا في هذه النعمة السابغة.
العربي الجديد