في شوارع إسطنبول الكبيرة، وعلى مقربة من معالم أثرية كثيرة، يلفت انتباهك وجود نوعين مختلفين من اللاجئين السوريين، الذين تتعرف على جنسيتهم من لهجتهم. فهناك الفقراء المعدمون ممن بدأوا يعتاشون على المساعدات الشحيحة أو على بيع بضائع بسيطة، أو التسوّل على الأرصفة. وآخرون ممن يعيشون حياة السياح في التجول والتسوّق وارتياد المطاعم الفاخرة.
فعلى نواصي الشوارع وأمام محطات المترو، تفترش عائلات سورية الأرض طالبة المساعدة من المارة، أو يقف أطفالها العاملون محاولين بيع المحارم أو قطع البسكويت أو تلقي بعض المال كمساعدة.
سامر طفل سوري معوق ولد من دون كامل ذراعيه، يجوب منطقة «أكساراي» المعروفة، ويبيع قطعاً من الحلوى في علبة كرتونية. يرفض أن نلتقط صورة له ويهرب، بعد أن يشرح أنه يعمل بدل والديه اللذين لم يجدا عملاً في إسطنبول الكبيرة. في حين تفترش طفلة سورية أخرى لا يتجاوز عمرها التسع سنين أرض الشارع في «ترازيديريه» على رغم البرد والمطر، حاملة بين يديها طفلاً رضيعاً، تروي لنا أنها من منطقة الشاغور الدمشقية لكن والديها لا يعملان وظروفهما صعبة.
تخشى هذه الطفلة رجال الأمن الذين يمكن أن يبعدوها عن مكان وقوفها. فالشرطة التركية تقتفي أثر المتسولين في الشوارع، وتقودهم إلى المخافر لأخذ بصماتهم وتعهدهم بعدم العودة إلى الشوارع، قبل إطلاق سراحهم. لكن هيهات أن يلتزموا، فالحاجة أكثر إلزاماً من البصمات.
في «شبه المنازل»
وبعيداً من الشوارع والتسوّل، تعيش عائلات سورية في منازل مزرية، منها عائلة أبو فؤاد التي تقطن في منزل صغير جداً تصل رائحة الرطوبة والعفونة التي إكتست جدرانه إلى بابه الخشبي.
تدفع العائلة بدل سكن مقداره 400 ليرة تركية (نحو 170 دولاراً)، فلا يبقى من راتب الأب إلا 800 ليرة (نحو 340 دولاراً) للإنفاق على العائلة المؤلفة من ثمانية أشخاص من بينهم أخوه المتخلّف عقلياً وأربعة أطفال أحدهم يعاني صعوبات في النطق. واستعاضت العائلة عن زجاج النافذة الكبيرة المكسور في المطبخ المهترئ ببساط صغير لا يردّ البرد ولا الثلج.
أخبرتنا أم فؤاد عندما التقيناها، أنها لم تنم ليلتها وهي تفكر كيف يمكن أن تؤّمن ثمن الخبز لعائلتها صباح اليوم التالي. إذ فلم يعد في حوزتها ليرة تركية واحدة بعد أن سددت فواتير الكهرباء والماء المتراكمة. بعد ظهر ذات اليوم، أرسل لها «فاعلو خير» مبلغاً صغيراً من المال يمكن أن يكفيها لثلاثة أيام. لكن هذه البادرة لن تحل مشكلتها.
وأم فؤاد «لسان حال» عائلات سورية كثيرة مقيمة في إسطنبول، تعاني من ضعف حالتها المادية مع إنخفاض رواتب السوريين العاملين فيها وارتفاع الأسعار. وفي حديثها مع «الحياة»، تمنّت أن تعود إلى مدينتها حلب وأن تقيم تحت القصف في بيتها ولو كان مهدّماً، فهو «أرحم من الذل الذي أعيشه في هذه الغربة».
انقطاع المساعدات
وتشتكي العائلات السورية المحتاجة من غياب شبه كامل للجمعيات الخيرية. فعلى باب «رابطة علماء الشام» في منطقة الفاتح عُلّق إعلان يفيد بأنه لا مجال لتسجيل أسماء مزيد من العائلات المحتاجة.
وأوضح الدكتور محمد أبو الخير شكري المدير التنفيذي للرابطة لـ «الحياة» أنها ليست جمعية للإغاثة لكنها عملت بداية في هذا القطاع، حين كان يرد إليها 4 آلاف سلة غذائية شهرياً من قبل جمعية تركية، على رغم أن عدد الأسر السورية المسجلة لديها وصل إلى 23 ألف أسرة. وأضاف شكري أن الرابطة «كانت توزّع حصصاً غذائية لمن هم أشد حاجة وتضرراً. لكن الداعم التركي قطع المساعدات، وأصبحنا نتلقى من 150 إلى 200 حصة شهرياً فقط من رابطة العالم الإسلامي ومنظمات أخرى. ونوزّعها فوراً على العائلات الأشد حاجة، التي ليس لديها معيل أو هي أسرة شهيد أو ان أولادها معوقون». وزاد أن هذا الوضع «دفعنا للإعلان عن توقفنا عن تسجيل عائلات محتاجة جديدة، لأننا لا نستطيع تلبية طلباتها». وكشف الجمعيات التركية، لا سيما IHH، باتت ناشطة في الداخل السوري حيث ضغط الحاجة أكبر.
ولفت شكري إلى أن «سعر الحصة الغذائية في تركيا البالغ 50 ليرة تركية يساوي نحو 5 آلاف ليرة سورية، أي أنه يمكن شراء حصتين غذائيتين في سورية بقيمة خصة واحدة في تركيا». وعزا سبب عزوف رجال أعمال سوريين كانوا يمدون الرابطة بالدعم عن تقديم مساعدات، إلى تدهور وضعهم المادي بعد تضرر أعمالهم في سورية.
في المقلب الآخر
رجل الأعمال السوري نزار بيطار كان يعمل منذ عام 1992 في تجارة الآلات بين تركيا وسورية، ويقيم في إسطنبول منذ أكثر من عامين. وقد افتتح أخيراً مطعمين هناك يقدّمان وجبات سورية كالفلافل والشاورما، كما افتتح مطعماً آخر في أنقرة. ويشير في وقفته مع «الحياة» إلى أن المطاعم الثلاثة وفّرت فرصاً لعشرة سوريين. كما يشغّل 23 شاباً سورياً في فرن، مضيفاً أن لديه شركاء سوريين وعرباً.
وعلى عكس عائلة أم فؤاد، يرى بيطار أن مستقبله ومستقبل عائلته في تركيا، وأن بلده أصبح تركيا التي تشهد نمواً إقتصادياً جيداً، وهو لن يفكر بالعودة إلى سورية.
ولدى سؤاله عن الدعم والمساعدة اللتين يقدمهما رجال الأعمال السوريين إلى العائلات السورية المحتاجة، يجيب بيطار أنه وشركاءه يسددون أقساط تعليم 50 طالباً سورياً في مدرسة سورية بإسطنبول، مؤكداً أن فقر بعض السوريين يتأتى من تقاعسهم. فعندما يُطلب من أحدهم العمل 12 ساعة يومياً على غرار كثيرين، يفضّل أن يطلب المساعدة على العمل.
