اللاجئ والآخر، والآخر اللاجئ/ رامي العاشق
الحرب رحبة، أوسع أفقيًا، أعلى وأقدم من السلم، والقتل سبق. وربّما كان اللجوء قبلها ثمّ ارتبط بها كطفل يتعلّق بثوب أمّه بيد، وبالأخرى يلوّح لمن لا يعرفه. يقول القصّاص على سجيّته في محنة الجذور: “اللاجئ: نشيج الناي على صورته الأولى قبل المخيّم، المخيّم: زنجبيل على جدارِ حلق الإنسانيّة المتقرّح، لا بدّ منه، أحيانًا، للتّذكّر بأنّ بلادًا خلف النهرِ قد سقط اسمها سهوًا عن الخريطة. الخريطة: جغرافيا على ورق، ترسم حدودها ـ أبدًا ـ الدبّابة والقذيفة. القذيفة: انفجارٌ كونيّ صغير، يعيد ترتيب مكان الإقامة على هوى صاحبِها، صاحبها الذي أيقظ، ذات ليلة، خرافته من نومها وجرّها بالـ”16 F”، وقال: لا أكون إن لم يكن اللاجئ”.
أهي الفطرة أن تُلام الضحيّة دائمًا؟ أم أن الفطرة أن تستمرّ الضحية في تأدية هذا الدورِ وقتًا أكبر من الذي كان مقرّرًا لها؟ وقد يعجبها فتعدّه امتيازًا، فيكون للآخرِ سبب ولها ـ أي الضحيّة ـ سبب. فالآخر ـ وليس كلّ الآخرِ ـ يراها شمّاعة، وهي تراه عدوًّا محتملًا حاضرًا صديقًا وجاهزًا في أيّ وقت لينقضّ عليها. الثنائيّة هذه أصبحت جزءًا كونيًّا أساسيًا يُضاف إلى ثنائيّات الكونِ الخاضعة، كما يقولون، لحُكم أحاديّ. الخير شرٌ أحيانًا، والخطأ صوابٌ. والمؤيّد معارضٌ للطرف الآخرِ، والليل نهارٌ في مكان آخر. والآخر هنا ليس الآخر هناك. وهناكَ تكون هناك “هنا”، وكذلكَ اللاجئ قد يصبحُ الآخرَ يومًا ما، ليردّ على الآخرِ الذي صار لاجئًا بالمثل. تتصارعُ الثنائيّات وتتغيّر، وتبقى الأحاديّة المطلقة سبب هذا الصراع والتغيّر وخالقته وحاضنته ومربّيته، ويبقى أهمّ عوامل بقائها واستمرارها.
يسأل الآخر اللاجئ القديم: “هل حقًّا يعيش أبناء المخيّم في خيام؟”، فلا يردّ اللاجئ. ويردّ المخيّم من عليائه: “لا شيء له من اسمه نصيب”. كيف؟: “الخيام تطاولت على الوقت ومدّت أعناقها حتّى حجبتْ الشمس عنّي، ويحجّ الناس إليّ من كلّ باب، ويُحشر أهل الأرض بي منذ أن (كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة)، هكذا كان العهد القديم يقول”. إذاً لماذا ظلّ اسمك المخيّم؟ يجيب: “كيف يميّزهم الآخر إذا غيّرت اسمي؟”.
الآخر ميّزهم، ووضع باللون الأحمرِ فوق صورهم: “لا مكان لكم هنا طويلًا”. وساهم الآخرون بإضفاء شيء على الملامح؛ فأعطوهم لمعة زيت الإعاشة على جباههم. والآخر سمّاهم، وأعجبهم الاسم أو عجبوا منه، حتّى تعب العجب فصار عاديًا كالموت في الحرب الرّحبة. إلا أن الآخر لم يخبرهم، وهم لم يعرفوا، أين المكان الآخر ومتى الوقت الآخر ومن الآخر الذي سيسّميهم. ولم يسألوا، ربّما قلّة السؤال تجعل الأمر أخفّ وجعًا.
يقول أحدهم: “أنا اللاجئ الذي وُلد هنا، وابن اللاجئ الذي وُلد هنا ولم نعرف غير (هنا) مكانًا لنا، وأنا الذي لم تنفع سنوات عمر أبي الخمسون التي قضاها (هنا) في تغيير اسمه، ولم تنفع جنسيّة أمّي لكيّ أغيّر اسمي. لذلك أكره الأطفال – أطفالي لا أطفال الآخرين – لأنني باختصار لا أريد لهم أن يكونوا لاجئين”. هو لا يريدهم أن يكونوا مثله مختلفين، فكلّ مختلف هو مثل ما لا يختلفُ عنه وكل (مثل) مختلفٌ عن الآخرِ. والمثليّون متماثلون في ما بينهم، مختلفون عمّا سواهم، حتّى في الثورة ينتصر الآخر عندما يحوّل من همّ مثل بعضهم لآخرين على بعضهم.
اللاجئ يفتح باب خيمته/ قصره للآخر “غير اللاجئ”. والآخر يصبح جزءًا من هذا المخيّم الذي لم يبقَ منه على حاله إلا اسمه، ويكبر الآخر هنا وهو يقول: “أنا من هناك”، واللاجئ يقول: “أنا من هنا، ومن هناك أخرى غير “هناك ـه”، و”هنا ـي” المؤقت، و”هناك ـي” الأصل الآخر حيث العودة”. وإذا اشتدّ الأمر يومًا، صاح الآخر في وجه اللاجئ: “أنت لستَ من هنا، أنت من هناك، وأنت ومخيّمك في الـ”هنا” الخاصّة بي، فارحل. فيرحلُ ولا يرحل منه الكثير، ويبقى ولا يبقى منه شيء. لا تقف المهزلة هنا، بل يصبح الآخر ـ الشقيق سابقًا ـ مخبرًا عدوًّا. ويعودُ اللاجئ ليعيد الحكاية ويؤدّي دور الضحيّة؛ الضحية هنا ضحيّة أخرى، والجاني آخرُ بالضرورة.
الكلّ متغيّر، ولا ثابت إلا اللاجئ. الوطن ـ ولو كان مؤقتًا ـ صار سجنًا. والحدود مسيّجة بأسلاكٍ شائكةٍ متّصلة اتصالًا وثيقًا بالبحرِ من جهة، وبخطوطِ الكهرباء المنهوبةِ من جهةٍ أخرى. الوطن/ السجن، يصبح أرحم من الجار/ السجن أيضًا. ويصبح المخيّم الآخر سجنًا حقيقيًّا لا مجازًا، ولو حمل اسمًا جميلًا كـ”سايبر سيتي” مثلًا. والهارب من السجن، يصبح مطلوبًا بتهمة التسلّل نحوَ الجنّة، فيُقذَف إلى جحيم الحرب سبعين خريفًا، فيُخرف عمره كما تُخرف الثمار. وتنام الصّحف ليلًا نهارًا عنه وينام أهل الأرض والسماء وما بينهما، بقرار سياسيّ ـ سياديّ في آن معًا.
نجا بعض اللاجئين القدامى مع من نجا من الآخرين، وغنّوا نشيد الموت للبحر والبرّ. وعزّ الجوّ إلا على من طمر لمثل هذا اليوم. نجوا من دون المخيّم، فانفصل الثنائيّ؛ “اللاجئ والخيمة”، طلاقًا قابلًا للرجوع عنه إن شاء الآخر. وصار الآخرون يسمّون لاجئين، واللاجئون القدامى، صار اسمهم “عديم”. وليس العديم من العدم ولا من العدمية، بل من الإعدام، إذ كان يحمل ألقابًا عدّة بأسماء هجراته، أعدموها جميعًا بقرار أممي آخر، فعدمها العديم ولم يقع في سلّة التين ولن يقع.
ومع هذا الانفصال والتغيّر في بنيةِ الثنائيّات، حصل بعض اللاجئين على جنسيّة ما، فصاروا مواطنين، وربّما لا يريدون أن يعترفوا بأنهم أنصاف مواطنين أو مواطنون من الدرجة الثانية، لأن النكران كآليّة دفاع أصيلة يتغلّب على التصديق. فصار هؤلاء ـ بفضل الجنسيّة ـ محسوبين على الآخرِ وصاروا يمارسون “آخريّتهم” على الآخرين. وكلّما ابتسمت الحرب صاحوا عليهم ـ بعد أن تحوّلوا ونسوا ماضيهم ـ: “يا لاجئين”! هكذا؛ قتل اللاجئُ اللاجئَ عندما صار الأوّل شيئًا آخر، وكان لزامًا على الثاني أن يحتفظ باللقب كي لا يتحوّل إلى نكرة.
(كاتب فلسطيني)
العربي الجديد