صفحات سورية

اللاعقلانية في السياسة الروسية


عبد الحكيم أجهر

عندما يصبح الخطاب اللفظي العاطفي هو محرك السياسة على حساب التفاصيل والحسابات الدقيقة للواقع، تدخل السياسة في حالة من الممارسة اللاعقلانية. لقد وصف المفكر السوري ياسين الحافظ يوماً في كتاب شهير له السياسات العربية باللاعقلانية لأنها اتسمت في أهم خصائصها بتغليب الخطاب اللفظي على الواقع، وقد بالغت السياسات العربية في ذلك حتى أن قرارات الحروب كانت تتخذ على أساس هذا الخطاب أكثر من الحسابات وموازين القوى.

الخطاب اللفظي بطبيعته انفعالي يعطل حسابات العقل، وهذا ما وقف على الأرجح وراء قرار الفيتو الروسي على المبادرة العربية. وفي المقابل فإنه من الصحيح أن التحليلات التي تناولت هذا القرار قد لا مست الكثير من المخاوف والتحفظات الروسية على سياسات الغرب، مثل الخديعة في قرار تدخل النيتو في ليبيا، وصعود التيار الإسلامي في الربيع العربي، واحتمال انهيار الحلف المتبقي لروسيا في الشرق الاوسط، إيران وسورية…، ولكن هذه العوامل رغم صحتها هي أكبر بكثير من رد الفعل المتمثل في الفيتو.

كان القرار المطروح على مجلس الأمن فرصة ذهبية لروسيا لتثبت مشاركتها الحقيقية في صناعة العالم العربي الجديد بما يفوق الاندفاعات الانفعالية وحسابات المصالح الصغيرة التي اعتقدت بها موسكو. كان نص القرار يضمن استمرار تصدير السلاح الروسي لسورية، كما ينقذ ماء وجه روسيا أمام حلفائها بأنها منعت عنهم أية عقوبات دولية ومنعت التدخل العسكري كما نص القرار أيضاً. والأهم من كل ذلك أن هذا القرار سيضمن تخفيف احتقان الشعب السوري ضد روسيا ويجعلها حليفاً لها في المستقبل، لأن سورية لا تستطيع التخلي عن السلاح الروسي في ظل امتناع الغرب عن تزويدها به. وقبول روسيا بالقرار كان سيشجع على بناء وتنامي علاقات جيدة بينها وبين العالم العربي. ويمكننا هنا أن نضيف أن الزعم الروسي بأن الغرب يستأثر بكل شيء ويستبعد روسيا من قطع الكيك التي يحصل عليها لن يكون صحيحاً في سورية، لأن مشروع القرار كان يتحدث عن حكومة انتقالية بزعامة فاروق الشرع الذي ينتمي إلى مدرسة الأسد، الأب والابن، فهو شخص مضمون على هذا المستوى بالنسبة لروسيا، والحكومة الانتقالية المطروحة حكومة من المفترض أن تحقق عملية الانتقال السلمي للسلطة تدريجياً، وهو أمر يسمح لروسيا بتسجيل حضورها الدائم داخل هذا الانتقال البطيء ويجعلها شريكة فيه، خاصة وأن المؤسسات الأساسية في سورية كمؤسسة الجيش ستبقى على حالها وهي تحمل التربية والتدريب والسلاح الروسي. كل هذه العوامل يفتح الباب لروسيا لتكون شريكاً فاعلاً في الانتقال السلمي للسلطة في سورية الــذي لا يشبه ما حصل في العراق وليبيا اللذان انهارت فيهما السلطة المركزية بشكل حاد، و لم يسمح لروسيا في المشاركة بترتيبات مابعد السقوط.

اللاعقلانية في السياسية الروسية، تجلت في المراهنة على بشار الأسد الذي وضعت كل بيضها في سلته في الوقت الذي يهتز حكمه بقوة، وتجلت في خسارتها العرب كشركاء محتملين، كما ضحت بسمعتها الأخلاقية عالمياً كداعمة لأنظمة قمعية وحشية مرفوضة شعبياً، وكل الذرائع التي طُرحت لتبرير الفيتو الروسي لم تكن مقنعة، مثل عدم توازن القرار في إدانة متساوية لاستخدام العنف من قبل السلطة السورية والجماعات المسلحة، وعن ضرورة إجراء حـــوار بين الطرفين دون شروط مسبقة. هذا الاضطراب في السياسة الروسية الذي لا ينطلق من استراتيجية واضحة سوى المنافع المباشرة، هو الذي جعلها في الماضي توافق على معظم المواقف الغربية طمعاً في إعطاء الغرب لها حصتها من موافقاتها تلك.

لن أتحدث هنا عن الفيتو الصيني، لأنه كان يتلطى خلف الروسي من أجل ممارسة ابتزاز مجاني فقط. أما الفيتو الروسي فلم يكن موقفاً عقلانياً في حسابات الربح والخسارة، بل كان ردة فعل كبيرة على شيء صغير، وكانت خسائره أكثر من أرباحه. ولعل روسيا كانت تشعر بلا عقلانية قرارها هذا، لذلك صرحت عقب القرار أن الغرب لم يسمح بمشاورات أطول، وإلا كان من الممكن الحصول على توافق. وربما تعمد الغرب الاستعجال في التصويت على القرار وأوقع روسيا في فخ الفيتو، لأن هذا سيبرر للولايات المتحدة في المستقبل استخدامه لصالح اسرائيل، ولأن نص القرار تضمن تنازلات كبيرة فرغته من محتواه، وفتحت هذه التنازلات الباب واسعاً لممارسة كل المناورات الممكنة من النظام السوري. وبالتالي كانت النتيجة، فيتو روسي محرج لها، مقابل شعور الغرب بحرية أكبر بالتصرف وبتشكيل التحالفات التي تملي ما يريده هو دون الخضوع لقرارات غير فاعلة من مجلس الأمن. فروسيا والغرب يعرفان أن المواقف التي تصل لحد المواجهة المباشرة بينهما تخسر فيها روسيا وتنسحب من المعركة، تصمت وتعض على جرحها بغيظ وصمت. هذا ماحصل في الحرب الأهلية بيوغوسلافيا وما حصل في غزو العراق، وما سيحصل في حال تم ضرب إيران.

لقد انطلق الموقف الروسي من حالة لفظية تتحدث عن الشعور القومي الروسي وضرورة الوقوف في وجه الغرب الذي يجتاح العالم منطقة بعد أخرى، وفي تحريض إعلامي للشعب الروسي على استعادة حلم الدولة الكبرى التي تشارك في تقرير شؤون العالم شأنها شأن الغرب من أجل أن يظهر بوتين كبطل قومي في الانتخابات القادمة غير مضمونة النتائج بالنسبة له. ولكن هذا الخطاب العاطفي هو مجرد كلام، فروسيا لم تعد مثلما كانت أيام الحرب الباردة والتي خسرتها على أية حال، أيام الحلف السوفيتي الكبير وسباق التسلح والمراهنة على انقلابات العسكر في العالم الثالث تحت مايسمى أنظمة تقدمية تتقرب من الاتحاد السوفيتي القديم. لقد انتهى هذا الزمن، وروسيا اليوم لا يمكن لها على المدى المنظور على الأقل أن تتحول إلى ند حقيقي للغرب في اقتسام العالم، في الوقت الذي شهد تاريخها الحديث هزائم متتالية أمامه منذ بدايات القرن العشرين وحتى اليوم. ويضاف إلى ذلك ضعف آلتها الإعلامية التي لا يمكن لها أن تروج لمواقفها أمام الآلة الإعلامية الغربية التي لن تتوقف عن التشهير بالموقف الروسي الداعم لأنظمة القتل والقمع، بل سيصّعد الإعلام الغربي من حملته ضد بوتين في تأجيج الاحتجاجات ضده، وربما ستساهم الحملات الإعلامية الغربية في تنشيط التمرد الإسلامي داخل الجمهوريات الحليفة لروسيا.

لقد وجدت روسيا في الأزمة السورية فرصة لتطبيق هذا الخطاب اللفظي في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة متراخية أصلاً في هذا القرار، وربما اعتقدت روسيا أنها ستنفرد بسورية كبلد تستأثر به وحدها ولن تشارك الغرب فيه، ولكن القرارات التي تتخذ على أساس لا عقلاني سرعان ما تضع أصحابها أمام مآزق صعبة. روسيا اليوم بعد الفيتو تقف أمام معضلة، فهي إما أن تثبت للعالم أنها ستجد حلاً سياسياً لسورية وأنها قادرة على إيجاد حلول للمشكلات العالمية كما تفعل الدول الكبرى مما يعطيها مصداقية في قراراتها، وهذا أمر صعب لأن الحلول المطروحة في سورية حرجة جداً قد تؤدي إلى إسقاط النظام، الأمر الذي يفسر تبواطؤ النظام نفسه في إجراء إصلاحات، أو أن تعطي روسيا رخصة مفتوحة للنظام السوري بالقتل من أجل استعادة السيطرة على المجتمع السوري، وهذا لن يحرج روسيا في العالم فقط بل سيساهم في التصعيد الغربي المقابل الذي لا قبل لروسيا بمواجهته، كما بدأت تلوح في الأفق فكرة إنشاء مجموعة اتصال غربية لأصدقاء الشعب السوري.

طبعا من المؤسف أن تكون الثورة السورية ضحية للتجاذبات وللاعقلانية القرارات الدولية، والنظام السوري هو الذي وضع البلد كلها على هذا الطريق بتعنته وقمعه الوحشي واستخدام الجيش في المدن وخواء خطاب الإصلاح. الثورة السورية مستمرة وثمن حرية الشعب السوري سيكون مرتفعاً ولكنه سيحصل عليها في النهاية. أما روسيا فقد تستفيق في لحظة على شعورها بالفشل في تقرير السياسات الدولية وتستنجد بالغرب لإيجاد حلول توافقية وتتراجع عن قراراتها التي اتخذتها اليوم، أو أنها ستقلص من طموحاتها وتُمعن في لا عقلانيتها السياسية و تكتفي بتشجيع النظام السوري على تقسيم سورية ليكون لحلفائها في النظام دولتهم على الساحل السوري الذي يضمن قاعدتها البحرية في البحر المتوسط مثلاً، الأمر الذي يفتح باب حرب أهلية طاحنة لا تستطيع روسيا متابعة نتائجها حتى النهاية، كما لاتستطيع روسيا أن تترك النظام السوري يمارس مجازره على هواه ويشبع عطشه للدم، لأن هذا يعني تدخلاً غربياً ستفشل روسيا في مواجهته أيضاً.

‘ أستاذ جامعي وباحث سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى