اللامركزيّة أو الموت
حازم صاغية
سجّلت ثورات “الربيع العربيّ”، أو أغلبها، ظاهرتين متناقضتين، أو أنّهما، على الأقلّ، تبدوان للوهلة الأولى كذلك:
من جهة، هناك “المليونيّات” التي باتت تحتشد في الشوارع والميادين، لا سيّما شوارع المدن الكبرى وميادينها.
ومن جهة أخرى، سيادة التناثر والتذرّر اللذين بتنا معهما على دراية بأسماء أصغر البلدات والقرى في ليبيا واليمن وتونس، وخصوصاً سوريّا، وكذلك مصر.
الظاهرة الأولى تشير إلى ما يسمّيه بعض الباحثين والمؤرّخين “دخول عصر الجماهير” فيما يسمّيه بعض آخر منهم “دخول الجماهير إلى التاريخ”. وهذا تعريفاً معطى مدينيّ يتّصل بتكوين المدن وامتداداتها، كما أنّه يمتلك أفقاً وطنيّاً عامّاً. هنا يكمن ما يُعرف بـ”الرأي العامّ” كقوى تولد للتعبير عن الحساسيّة الأبرز في المجتمع، وكرغبة ملحّة على تغيير المجتمع هذا.
أمّا الظاهرة الثانية المعاكسة، فتشير إلى مكثنا الطويل في عالم ما قبل الدول – الأمم، أي في تراكيب الجماعات الأهليّة التي لم تسمُ إلى سويّة الوطن، طائفيّةً كانت أم مذهبيّةً وإثنيّةً وجهويّةً. هنا تقيم الآراء العديدة الخاصّة الطاردة لرأي عامّ وطنيّ غالب. هكذا تحلّ الطائفة أو العشيرة محلّ الجماهير الوطنيّة (طبعاً نجد بين الديماغوجيّين والملفّقين من يتحدّث عن “جماهير الطائفة” و”جماهير العشيرة”!).
وهذا التراكُب بين الظاهرتين أعلاه إنّما يشير إلى الطابع المتفاوت جدّاً الذي اتّسم ويتّسم به التاريخ العربيّ الحديث، بقدر ما ينعكس على ثوراته ومخاضاته الكبرى وأيّ من أحداثه المفصليّة. وفي هذا المعنى، لن يكون من المبالغة في شيء أن يقال إنّ غلبة أيّ من الظاهرتين على الأخرى هي، من حيث المبدأ، المفتاح الممكن لتحديد نوع المستقبل الذي قد نلجه.
فإذا انتصر ما تدلّ إليه “المليونيّات” من مدينيّة تهجس بالبُعد الوطنيّ، أمكن الرهان على أفق يملك مقوّمات الانسجام، وتالياً الاندراج في وجهة الأوطان والدول. أمّا إذا انتصر التذرّر وما ينطوي عليه من قوى ومعانٍ، فكان ذلك إيذاناً بحروب أهليّة مفتوحة من دون أن يتوفّر الطرف “الوطنيّ” القادر على ضبطها أو حسمها.
بيد أنّ الأمور قد لا تكون في مثل هذا التعادل الخطّيّ والمنمّط. وربّما جاز لنا، في المقابل، التعويل على صيغة مرنة تجمع بين الظاهرتين المتعارضتين بحيث يصان البُعد الوطنيّ الذي تُترك قيادته للمدن، فيما يُتاح لخصائص المناطق والجهات والطوائف أنّ تتمتّع بدرجة من الاعتراف بها على نحو يتيح عيشها وممارستها.
والحال أنّ القدرة على بناء هذا التوليف تبقى مرهونة بمدى امتلاك تصوّر غير مركزيّ (فيدراليّ أو كونفيدراليّ، حسب طبيعة البلد المعنيّ) من دونه لا يمتلك مصطلح “الديمقراطيّة” أيّ معنى في حياتنا العربيّة المعاصرة.
فالراهن أنّ الاستبداد والديكتاتوريّة اللذين رزحت وترزح الشعوب العربيّة الكثيرة تحتهما قابلان لأن يُعطيا اسماً آخر يكون مرادفاً لهما، ألا وهو المركزيّة الشديدة والصارمة.
فمن هنا، من العاصمة، حيث يتربّع الزعيم في ذروة هرم بيروقراطيّ وأمنيّ، يُحكم البلد كلّه، وصولاً إلى أطرافه البعيدة التي ربّما كانت تتحدّث بلغات أخرى أو تؤمن بديانات ومعتقدات لا يربطها رابط بما تدين به أكثريّة أهل المدينة – العاصمة. وحكم كهذا لا بدّ أن يغلّب مصالح الجماعة التي ينتمي إليها الزعيم وبطانته على مصالح تلك المناطق وحاجتها إلى التنمية والاستثمار والتعليم وسوى ذلك من حاجات.
لكنّ السؤال الذي تلحّ على طرحه فصول التاريخ العربيّ الحديث، والذي تعاود الثورات الراهنة طرحه علينا، هو تحديداً: هل ثمّة بين القوى الفاعلة في مجتمعاتنا من يستطيع أن يجاهر بهذه الحقيقة، أي أن يتحدّى، في وقت واحد، ثقافة تُعلي الوحدة البسيطة على الوحدة المركّبة، ومصالح ترعرعت في ظلّ تلك الوحدة البسيطة والقسريّة وأفادت منها؟
لقد آن الأوان لكي نسمع رأياً واضحاً ومتبلوراً للثورات العربيّة، أكانت تلك التي انتصرت أم تلك التي لا زالت تحاول، في هذه المسألة التي يكون الرأي فيها أشبه بموقف نقديّ من الماضي وببرنامج عمل للمستقبل في آن معاً! أمّا المضيّ في الصمت والتحايُل فلن يكون إلاّ مجلبة للموت الذي قد لا ينجو أحد منه، فيما ستكون الأوطان نفسها ضحيّة مضمونة.