اللانهاية أرض العبث
عبد الوهاب عزاوي
عندما كنت تلميذاً في المدرسة، كانت فكرة اللانهاية أثناء دراسة الرياضيات مغويةً، ليست بصفتها مكاناً موغلاً في البعد، وفراغاً لا قرار له، مقفراً فاقداً لأشكال الحياة، بل كعدد لا نهائي من المسافات بين رقمين أو حدثين. باعتبار أن اللانهاية مشكّلة من مسافات بالغة الصغر بين محَدَّدَين، تكاد أن تقترب من الغياب، تلامسه، لكنها لا تلتقي تالياً لا تفقد وجودها. أرضٌ شاسعة مجهرية تتحرك بينها التفاصيل، والأخطر أن كل نقطتين متقاربتين تحملان بينهما عدداً جديداً غير منتهٍ من المسافات.
إنها أشبه بالنسيان، نسيان متخم بالتفاصيل، وليس نسياناً فارغاً، نسياناً قابلاً للعكس على خلاف الغياب. إنها التفاصيل التي نعجز عن الاحتفاظ بها لدقتها. إنها الحياة باعتبارها أرضاً للنسيان، وقابلة للتذكر فيما لو وجد من يقدر على التأمل. اللافت في الفكرة أنها على بالرغم من كل تفاصيلها لا تفقد بساطتها وعفويتها، أو بشكلٍ أدق طبيعيتها. إنها كالبحث عن الجمال في منظر قبيح، أو في أشياء مشوّهة تنتظم بخصوصية تعطيها جمالاً، كالمرضى في المشافي مثلاً.
أتخيلها كعدد لا نهائي من الصور الفوتوغرافية بين لحظتين، وكل صورة تملك هويتها وسماتها الخاصة. أفكر في ذلك وأنا أتأمل سيل الصور المرعبة المتعلقة بالانتفاضة السورية، سيل النسيان فيها، كلها مهمة، لكن أذهاننا البشرية لا تقدر على تلقيها، على تلقي كل هذا الألم.
الأهم أنها لا تريد ذلك. إنها تفضل النسيان، ماء تسبح فيه التفاصيل نحو العمق، تغرق فيه كما نغرق في الحياة، الحياة كفعلٍ معيش، لا كفعلٍ متخَيَّل أو مرسوم فوق الحياة نفسها. أتخيل كم من الممكن أن نكتب عن العالم الداخلي والذكريات السابحة في اللاوعي بين لحظتَي مسك الفنجان ولحظة البدء برشف ما فيه. هذا المسير القصير المفرط في تكراره وعاديته. لعل الطريف في الأمر أن هذه الفكرة تأتي من شخص يتعامل مع الحياة الاجتماعية بالحد الأدنى مع الحصار أو بدونه.
كثيراً ما كنت أفكر في ذلك وأنا أكتب بعض نصوص العبث. كنت أظن أنه أسلوب تعبير مناسب في المراحل المجتمعية المضطربة، مراحل نكاد نفقد فيها الثقة بكل شيء، بالأفكار الكبيرة والأحلام الجماعية الساحرة، نكاد نفقد فيها الأمل. ذلك يحمل جانباً من الصحة لكنه لا يفسر كتابة بينتر أو جان جينيه. العبث هنا خيار وليس انعكاساً. إنه فن يركز على التفاصيل، لكن بطريقته. طريقة معكوسة عن الفن التشكيلي الكلاسيكي. إنه لا “يساوي بين عين المرأة وحذائها” بشكلٍ تقليدي، فقد يغلّب أياً منهما في كل لحظة. في هذا المعنى، هو يساوي بينهما. إنه فن يقوم على التفاصيل أيضاً. لكن العبث يحتفي بها، ينقلها نحو مركز الصورة، وليس العكس.