اللاواقعية السياسية في سوريا
د. عبدالله جمعة الحاج
وصل النظام السوري إلى السلطة، من واقع مجتمع كانت تفصل بين مكوناته الصراعات الفئوية والطبقية وتصادمات الحضر بالريفيين، ومنغلق في صراع وطني ضد قوى خارجية قوية، وتحكمه أوليجاركية (قلة) تقليدية ذات قواعد اجتماعية ضيقة شرعيتها محدودة. هذا النظام يقوم على أسس من أيديولوجية حزب “البعث العربي الاشتراكي”، و”البعث” هو أحد أهم الأحزاب الأيديولوجية التي تم الدفع بها بقوة من قبل مشاكل المجتمع السوري، وتم اقتراحه أو الاعتقاد بأنه كان سيحلها عبر خليط من الشعارات القومية العروبية وخلق دولة وطنية قوية قائمة على الشعبية الجماهيرية والإصلاح الاجتماعي الثوري. لقد طور “البعث” لنفسه طبقة وسطى ترتكز على الزُرّاع، لكنه لم يتمكن قط من تحقيق التأييد الجماهيري اللازم لحيازة السلطة عبر أصوات الجماهير، لذلك فقد وصل إلى السلطة عام 1963 عن طريق انقلاب عسكري.
منذ البداية خطط “البعث” لإقامة دولة “بعثية” خالصة، وفرض الثورة من فوق، لكن ذلك المخطط تم تحديه مباشرة من قبل مجموعة من المعارضين أهمهم الأوليجاركية التقليدية، و”الإخوان المسلمين” والليبراليين والناصريين، ولكل طرف كانت توجد قواعده الاجتماعية الخاصة به. وتمكن “البعث” من تقوية نظام حكمه عن طريق القبضة الحديدية التي فرضها الضباط “البعثيون” في داخل الجيش. وفي الوقت نفسه فإن التغييرات الاشتراكية، بما في ذلك عمليات التأميم وإصلاح ملكية الأرض أضعفت النخب التقليدية، وأخضعت مفاصل الاقتصاد الاستراتيجية لسيطرة الحزب. لكن من المؤكد أنه لا يمكن إخضاع الجيش بشكل كامل لسلطة الحزب خاصة، عندما يتزامن تمرد المعارضة الشعبية مع الهزيمة العسكرية في الحرب ضد إسرائيل، وتقوم النخبة العسكرية بإخضاع الثورة لمتطلبات الوحدة الوطنية ودعم المجهود الحربي. عندها أصبح “البعث” ضعيفاً وغير قادر على إيقاف استيلاء ضباط الجيش على مقدرات البلاد.
النظام الحالي تمكن من السيطرة على السلطة عام 1970 عبر انقلاب عسكري غير من مضمون الدولة “البعثية” عن طريق شخصنة السلطة، وتركيزها في يد سلطة شمولية تتمتع بصلاحيات واسعة ذات مضمون فردي. لقد ارتكزت هذه السلطة على شبكة من الولاءات الشخصية من قبل أتباع ينتمون إلي طائفة اجتماعية واحدة يسيطر أفرادها على كافة أجهزة الدولة الأمنية مع وجود أتباع موالين للرئيس ضمن القيادة العليا للجيش. ووفقاً لذلك تم تقزيم دور “البعث”، لكي يصبح أحد الأعمدة فقط التي يرتكز عليها النظام الرئاسي المسيطر، وتم تقليص دور الأيديولجية “البعثية” كمقرر للسياسات عن طريق انتهاج سياسة خارجية خففت من الروح الوطنية القتالية، وعن طريق سياسة تحرير اقتصادي ألغت سياسات “البعث” الاقتصادية، وتحولت النخبة الحزبية ذاتها إلى بيروقراطية دولة عبر الفساد الإداري والمالي وصفقات الأعمال التجارية، همها الأول هو المحافظة على الأوضاع القائمة والدفاع عنها.
وفي نفس الوقت قام النظام بتهميش وإقصاء كافة الفئات الاجتماعية الأخرى التي يشكل البعض منها السواد الأعظم من الشعب السوري، مستفرداً بذلك بالسلطة والثروة. هذا المسار ولّد معارضة متنامية، وإن كانت هادئة في بداياتها من قبل جميع فئات المجتمع الأخرى. ورغم أنه تمت السيطرة عليها واحتواؤها في البداية عن طريق القمع واستخدام القوة المفرطة، لكن ليس من الممكن للأمور أن تستمر إلى ما لا نهاية، فالشعوب قد تقمع وتصبر في البداية، لكنها تتحرك في نهاية المطاف، لكي تعيد الأمور إلى نصابها وواقعيتها، وربما أن هذا هو ما يحدث في سوريا الآن بعد أن امتدت اللاوقعية السياسية بينها لما يزيد على الأربعين عاماً.
الاتحاد