اللحظات التأسيسية: حازم نهار
حازم نهار
في خضم هذه الأحداث المتلاطمة التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وتشابكت القضايا، داخلياً وخارجياً، يمكن للحكمة التي تقول “اذهب إلى النبع لتشرب منه” أن تكون مفيدة بعض الشيء. هكذا يقول الحكماء، لكن حكمتهم هذه لا تعني البقاء عند النبع، بل تعني التذكير بالأساسيات الأولى من أجل البناء عليها بطرقٍ تحدُّ من الأدران التي لحقت بمياه النبع بعد مرورها في قنوات كثيرة.
قلائل هم الذين يبقون أمناء لروح وغايات اللحظات التأسيسية، وهذا طبيعي. فالواقع، بتناقضاته ومصالحه، يفعل فعله ويغيِّر من طبائع البشر وغاياتهم، ويطمس أحياناً أو يغيِّب معالم الينابيع الصافية. على الرغم من هذه الحقيقة، تبقى محاولة استعادة اللحظات التأسيسية والذهاب إلى الينابيع الأولى وصفة سحرية لتحليل ما جرى وتسهيل اتخاذ المواقف وفك شيفرات الواقع المعقدة، وربما تكون مفيدة لتحقيق انطلاقة نوعية جديدة.
اليوم، عندما يعلو الصوت المنادي بالدولة الإسلامية ودولة الخلافة يصبح من الضروري الذهاب إلى النبع في محاولة للعودة إلى الأساسيات وإعادة توجيه البوصلة. كان جمال الدين الأفغاني من أهم الدعاة الذين تبنوا الفكر الإسلامي الوسطي المعتدل، وساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل من الجمود الذي أصابه لعدة قرون. ثم جاء بعده تلميذه الإمام محمد عبده، الذي يعدُّ واحداً من دعاة الإصلاح، وشارك في إحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية كافة، وقد شدَّد الإمام على ضرورة تجديد الخطاب الديني، وتطهير الإسلام مما علق به من عادات فاسدة عبر سنوات التخلف، ودعا إلى تخليص العقيدة من منازعات الفرق وإعادة إرساء قواعد العقيدة بعيداً عن التعصب، وأكَّد أيضاً على ضرورة فصل الدين عن السياسة. وبعده جاء تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا الذي كان أقل انفتاحاً على الحياة الحديثة وتطوراتها من أستاذه، وهو من مهَّد الطريق للشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، الذي حوَّل الإسلام إلى مشروع سياسي شامل يهدف في المآل إلى إقامة دولة إسلامية بطريقة تتواكب مع العصر. لكن هذا الأخير أنجب واقعياً سيد قطب الذي نادى بالحاكمية لله، وكان المرتكز الذي انطلقت منه الجماعات التكفيرية والقاعدية التي رفعت شعار الخلافة الإسلامية وتطبيق حدود الشريعة في مواجهة الحياة العصرية.
كانت اللحظة التأسيسية أكثر انسجاماً مع الحياة المعاصرة، بل إنها كانت مستوعبة لحاجات الواقع الجديد وسعت إلى بناء شكل من أشكال التوافق بين الموروث والجديد. بينما مسيرة التاريخ من اللحظة التأسيسية وحتى اليوم تبدو لنا مسيرة تقهقرية، وهذا غريب عن المنطق الطبيعي للأمور الذي يرى أن الحاضر يستوعب الماضي ويتجاوزه نحو الأمام. أليس غريباً أن يظلّ مصطفى السباعي، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في سورية، الأكثر انفتاحاً وديمقراطية بين أعضائها حتى اليوم؟ بل إننا نكاد نقول إن أعضاءها اليوم لا علاقة لهم بروح وفكر هذا الرجل.
التيارات السياسية الأخرى ليست أفضل حالاً من الإخوان المسلمين، فمن المؤكد أن ماركس ولينين بريئان من المسوخ التي أنتجتها الأحزاب الشيوعية والاشتراكية المعلبة. والأمر ذاته ينطبق على القوميين العرب الذين تحولت القومية على أيديهم من فكرة تسعى للتعبير عن اكتشاف أمة لنفسها في الواقع والمستقبل إلى فكرة عنصرية واستبدادية. وأيضاً يصح القول ذاته على الليبراليين في الشرق والغرب الذين ابتعدوا كثيراً عن روح جان جاك روسو ومونتسكيو وفولتير وسبينوزا وديكارت وغيرهم، وتحولت ليبراليتهم إلى مجرد الدوران في فلك السياسات الأميركية والغربية.
اللحظة التأسيسية لإعلان دمشق للتغيير الديمقراطي في عام 2005 كانت لحظة نوعية عندما اجتمعت قوى سياسية وشخصيات سورية معارضة، عربية وكردية، ومن انتماءات أيديولوجية مختلفة، ليبرالية وشيوعية وقومية وإسلامية، وتوافقت على هدف التغيير الديمقراطي في سورية. وكذلك كانت الغاية عند تأسيس المجلس الوطني السوري في أكتوبر 2011 الذي أراد الجمع بين المعارضة السياسية التقليدية وقوى الثورة الشبابية والشعبية من أجل وضع بوصلة للحراك الشعبي ومستقبل سورية. فيما كانت الغاية من تشكيل هيئة التنسيق الوطنية في حزيران 2011 هي تنسيق المواقف بين القوى المعارضة وقطع الطريق على الخلافات المحتملة بينها في المستقبل بحكم مجريات الأحداث، أما المنبر الديمقراطي السوري فكانت غايته التحول إلى ساحة لتفاعل الآراء وإلى جسر بين قوى المعارضة في محاولة للتقريب بينها وتنسيق مواقفها. الجميع ابتعد عن تلك اللحظات التأسيسية لنكون في المآل أمام ركام معيق وغير فاعل.
وكذا الأمر بالنسبة للثورة السورية ذاتها، فقد خرج السوريون في مظاهراتهم من أجل الحرية والكرامة، ولم يخرجوا تأييداً لأي جهة سياسية أو لبناء دولة الخلافة، ولذا كانت شعاراتهم الأولى تؤكِّد على وحدة الشعب السوري والمواطنة، ولم تلتفت للانتماء الديني والمذهبي والإثني، وكانت أسماء جمعهم معبرة عن توجهاتهم، كجمعة الكرامة والجمعة العظيمة وجمعة آزادي، وغيرها. ولم تختلف أيضاً اللحظات الأولى للعسكرة عن هذه التوجهات، فكان تأسيس الجيش الحر رداً طبيعياً على جيش تنكَّر لأولى مهامه ومبررات وجوده في حماية السوريين، وتكوَّن هذا الجيش من أشخاص رفضوا إطلاق النار على أهلهم وانحازوا لأبناء بلدهم وأعلنوا أهدافهم في الدفاع عن النفس وحماية المدنيين والوقوف في وجه اجتياح المدن والبلدات، فيما الحال اليوم هي مجموعة من الكتائب والألوية المشتتة بتسميات متعددة وشعارات مختلفة.
اللحظة التأسيسية لسورية ذاتها كدولة كانت شيئاً مغايراً لما بناه النظام السوري وللحالة التي نعيشها اليوم، فالمؤتمر الوطني السوري الذي امتدّ عمره من 7 حزيران 1919 إلى 19 تموز 1920 كان أول سلطة تشريعية سورية معاصرة، وأول صيغة برلمانية في المنطقة العربية. وقد أعلن المؤتمر في 8 آذار 1920 بيان استقلال سورية الكبرى باسم المملكة السورية العربية ونصّ على تحويل البلاد إلى دستورية مدنية، وكفالة الحريات السياسية والاقتصادية، وحقوق الطوائف الدينية، والتساوي بين المواطنين، وعلى لا مركزية الإدارة، كما تطرق البيان لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ومبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون، ورفض المشاريع الصهيونية أو أي تقسيم لسورية.
صحيح أن الواقع يغيِّر الأهداف والمصالح ويؤثِّر في مسيرة البشر والأشياء والأحداث، لكن قد تكون العودة الذهنية إلى الوراء، إلى اللحظات التأسيسية، مفيدةً، بقصد استعادة روحها وغاياتها وإعادة البناء عليها وتجاوزها نحو الأفضل، لا بقصد البقاء في حدودها والركون إليها أو البكاء على أطلالها. مسيرة التفسخ التي نعيشها اليوم لا يوقفها إلا العودة إلى زخم تلك اللحظات، والتخلص من الأدران التي لحقت بها.
المدن