اللعب بفلسطين… أو المزاح الجدّيّ
حازم صاغية
بعد الضربات الإسرائيليّة الأخيرة في دمشق، تحدّث كلّ من الرئيس السوريّ بشّار الأسد وأمين عامّ حزب الله اللبنانيّ السيّد حسن نصر الله، عن الانتقال إلى دولة المقاومة وعن فتح جبهة الجولان.
كلّ منهما تحدّث بطريقته وبما يلائم الموقع السلطويّ الذي يشغله. لكنّ المنطق هذا بدا، على عمومه، ضرباً من المزاح الثقيل. فمثل هذا الانتقال الكبير كان ممكناً إحداثه في فترات سابقة كثيرة ومتفاوتة: كان هذا ممكناً، مثلاً، في 1967 بعد احتلال هضبة الجولان مباشرة، بسبب هزيمة يونيو (حزيران) من ذاك العام. وكان ممكناً أيضاً في 1974، بعد فشل الرعاية الأميركيّة، ممثّلة بوزير الخارجيّة الشهير هنري كسينجر، للتوصّل إلى تسوية سوريّة – إسرائيليّة. وكان ممكناً كذلك في 1978، ردّاً على الاجتياح الإسرائيليّ الصغير لجنوب لبنان، أو في 1982، ردّاً على الاجتياح الكبير لبيروت وأجزاء واسعة من لبنان، وهو الاجتياح الذي رافقته ضربات موجعة للجيش السوريّ آنذاك.
هذا كلّه لم يحدث البتّة. إلاّ أنّ الكلام عنه جاء، في الأيّام القلية الماضية، صريحاً واضحاً للمرّة الأولى، من دون أن يعني ذلك أنّه سوف يحدث. وأغلب الظنّ أنّه لن يحدث لأسباب ثلاثة على الأقلّ:
– أنّ النظام السوريّ يستخدم كلّ قواه وإمكاناته في مكافحة الثورة السوريّة ومقاومة شعبها، وأنّه يعرف أنّه، في ضعفه الراهن، لن يبقى على قيد الحياة في حال إقدامه على مغامرة من هذا النوع.
– أنّ حزب الله يُدرك، بدوره، أنّ ذاك البرنامج اللفظيّ سيكون كارثيّاً على لبنان، وعلى بيئته الحاضنة نفسها، لا سيّما في الجنوب والبقاع. فهو إذا ما قاتل اليوم فإنّه سيقاتل في ظلّ تعطّل خطوط الإمداد السوريّة، فضلاً عن وجود القرار الأمميّ 1701 الذي يجعل الأمور أصعب كثيراً ممّا كانت عليه في مواجهة 2006. هذا لا يلغي استعداد حزب الله للدخول في مواجهة انتحاريّة من حيث المبدأ، إلاّ أنّ ذلك يحصل دفاعاً عن البرنامج النوويّ الإيرانيّ في لحظة هجوم على إيران، وليس دفاعاً عن النظام السوريّ الذي يُكتفى بدعمه بالمقاتلين والمدرّبين.
-أنّ إيران، ومنذ انتهاء حربها مع العراق في أواخر الثمانينات، لا تخوض حرباً بجيشها ورجالها، بل تقاتل بقوى حليفة وتابعة في لبنان (حزب الله) والعراق (المجموعات الراديكاليّة الشيعيّة) وصولاً إلى أفغانستان (جماعة إثنيّة الهزاره).
هذه المعطيات كلّها تشير إلى أنّ ما صدر عن القياديّين السوريّ واللبنانيّ يبقى أقرب إلى مزاح سمج. لكنّ المزاح هذا يلخّص أمراً بالغ الجدّيّة، كما يرمز إليه، وهو الطريقة المستخدمة دائماً في موضوع الصراع مع إسرائيل. فمنذ نشأت أزمة النظام العسكريّ العربيّ في بحثه عن شرعيّة تعفيه من مواجهة مشكلاته الداخليّة، وفي صدارتها مشكلة الشرعيّة نفسها، صار اللعب بقضيّة فلسطين تحصيلاً حاصلاً. وقد بلغ هذا التزامن إحدى ذراه الأشدّ كارثيّة في حرب 1967 حين ردّت إسرائيل ردّها الجنونيّ والمدمّر على هذا اللعب الناصريّ – البعثيّ يومذاك، فاحتلّت صحراء سيناء وقطاع غزّة والضفّة الغربيّة ومرتفعات الجولان في غضون ستّة أيّام!
ولولا هذا المزاح الخطر، وأساسه اللعب بموضوع فلسطين، لما كان لهذا الصراع أن يطول ويستغرق كلّ هذا الزمن الذي استغرقه، وأن يتعقّد كلّ هذا التعقيد الذي شابه ولا يزال يشوبه.
صحيح أنّ الرغبة الإسرائيليّة في التصعيد والعدوان كانت غالباً ما تلاقي المزاح العربيّ السمج في منتصف الطريق، بيد أنّ ذلك “النهج” صار مدرسة في السياسات الراديكاليّة العربيّة. وبالتدريج غدت لهذه المدرسة تقاليدها ولغتها التي لا تردعها الأكلاف الإنسانيّة أو الترابيّة المهدّدة بالاحتلال، بل يردعها رادع وحيد لا غير، هو سلامة النظام العسكريّ وأجهزته الأمنيّة. وكم كانت بليغة الدلالة بعد هزيمة 1967 المطنطنة تلك الحجّة التي أنشأها وعمّمها النظام السوريّ يومذاك، ومفادها أنّ العدوان الإسرائيليّ قد فشل لأنّ “الأنظمة التقدّميّة” لم تسقط.
في هذا المعنى يمكن القول إنّ المزاح الأخير لم يسقط علينا من فراغ. فهو ابن مزاح أكبر يمكننا تسميته بحث النظام العسكريّ عن شرعيّة مفقودة. مع ذلك، تبدو المدرسة تلك، التي باتت تنفق من اللحم الحيّ، تعيش أيّامها الأخيرة. ففي مجرّد أن تنشأ أنظمة دستوريّة تناقش قراراتها في البرلمانات والمؤسّسات، وتتمتّع بشرعيّة لا تعوزها إلى السعي وراء شرعيّة زائفة يؤمّنها التلاعب بفلسطين، حتّى يتوقّف المزاح الجدّيّ والخطر ليبدأ الجدّ من دون مزاح.
موقع 24