صفحات الرأي

اللعب حرية


بقلم: François Chirpaz   ترجمة : جلال الرويسي(بتصرّف)

الإهداء: إلى كافّة نوّاب المجلس التأسيسي التونسي، موالاة ومعارضة

الإنسان لا يلعب إلاّ إذا كان إنسانا بالمعنى الكامل للكلمة، ولا تكتمل إنسانيته إلاّ باللعب. (شيللر)

1.                   أن تلعب يعني أن تغادر مجال العالم العادي بهمومه واستحقاقاته العاجلة لتدخل ميدانا آخر منذورا بالكامل لمتعة الاحتفال. كلّ لعبة هي معركة تحاكي صراعات الحياة وتناقضاتها وتتأسّس على مبدأ “كما لو كان…”

2.                   يبحث كلّ لاعب على التغلّب على خصمه، لأنه لا شيء غير الانتصار يجازي جهد اللاعب. يستمدّ اللعب قوّته من الإمكانية التي يتيحها لطاقة الحياة كي تفصح عن ذاتها. فاللاعب يصرف الجهد طواعية وبقدر غالبا ما يكون أرفع ممّا يصرفه في عمله. “أعمل بجدّية طفل يلعب”. (إضافة من المترجم)

3.                   تنهض كلّ لعبة على مجموعة قواعد تتطلّب من أيّ شخص أن يقبل بها ويحترمها. ولا يجوز الخلط بين اللعبة المؤسّسة بالضرورة على قواعد والشطحات العفوية الساذجة. فأن تنطّ لا يعني أنّك ترقص وأن تنشج أو تدندن لا يعني أنّك تغنّي. ويعني تجاهل هذا الأمر التموقع في “التسلّل”. ففي اللعب، كما في أوجه الحياة الأخرى، لا يمكن للبشر أن يعيشوا دون قواعد. وحده صاحب الأهواء يجهل هذه القاعدة ولا يريد أن يعرفها. إنّه يجعل من نفسه مركز الكون لمّا يريد إخضاع ما يحيط بالأشخاص وبالموجودات لنزواته الطارئة. ولكن لا يمكن التعايش مع صاحب الأهواء فلا أحد يتحمّله. إنّه في وضع القويّ يتصرّف كمستبدّ معتبرا نفسه المركز الأوحد للكون. وفي موقف الضعف، يكون مصيره الإقصاء الذي يحكم عليه بالتهميش من خلال فضح حماقته لأنّه لم يفهم أنّ العيش المشترك يتطلّب باستمرار تعديل المواقف للتلاؤم مع القواعد. ولمّا تنساق ممارسة اللعب وراء إغراء الغش والتشويش الخسيس يتحوّل اللعب إلى مجرّد كاريكاتور للّعب، ويعدّ ذلك مؤشّرا على فقدان البشر القدرة على عيش حياتهم فعليا.

4.                   تمثّل فكرة الحدود الفاصلة والإيمان بها العلامة الأساسية للّعب. فالانتصار على الخصم ليس سوى انتصار رمزي. ذلك أنّ المواجهة في إطار اللعب لا تعترف بموت الخاسر أو المنهزم. فالخصم ليس عدوّا، وإنّما شريك.

5.                   ألعاب السّرك كما كانت تمارس زمن الإمبراطورية الرّومانية، لم تكن سوى كاريكاتور عديم الذّوق لممارسة اللعب باعتبار أنّ مصير المصارع المنهزم كان الموت. قد يمكن اعتبار ذلك لعبا من وجهة نظر المتفرّج الجالس على المدارج، ولكنه ليس كذلك بالنّسبة إلى المصارع في قلب الحلبة، وهو يفتقر لأبسط أسلحة المحارب. وعلى نقيض ذلك، نرى الملك المهزوم في لعبة الشطرنج يموت. ولكن القطعة المطاح بها من خلال مدّها أرضا، لا تموت إلاّ بشكل رمزي. حيث يتمّ إنهاضها لخوض جولة جديدة كما ينهض الممثل الممدّد على الرّكح بعدما يسدل الستار.

6.                   عوّدتنا السينما على أن يقتل لاعبو الورق بالكازينوهات اللاعب الذي يمارس الغشّ بطلقة مسدّس وبدم بارد، دون أن يحتجّ على ذلك أحد. وكنّا لا نرى في الرهان المالي المطروح على طاولة القمار سببا في قتل الغشاش. ولكنّ مصيره ذاك كان يبدو لنا يشكّل في الحقيقة جزءا من قواعد اللعبة التي يقبل بها كلّ لاعب شريف. (إضافة من المترجم)

7.                   أقلّ الألعاب إثارة وأضعفها شحنة تلك التي تقوم على قاعدة الحظ ولا تجازي الجهد المبذول. لذلك يقبل عيها ضعاف العقول والمتكالبون على الرّبح السهل. (إضافة من المترجم)

8.                   تتأسّس الرياضة بوصفها لعبا على مغالبة الذات والذهاب بها كلّما بدا أنّها ستنهار وتوقف التحدّي، بوصة إضافية إلى الأمام.. وهكذا يستمرّ تأجيل التسليم بالعجز. ومن مبادئ الرياضي الشريف تقبّل الهزيمة وعدم إذلال الخصم عند الانتصار عليه. لكنّنا أبدا لم نر حارس مرمى يصفّق لخصم سجّل له هدفا رائعا، ولا مهاجما يحيّي حارس مرمى تصدّى لتصويبة منه. وفي المقابل، نرى دوما ملاكمين يقطرون دما يقبّلون خصومهم عند نهاية المقابلة. لذلك سميت الملاكمة، وليس الكرة، بالفن النبيل. (إضافة من المترجم)

9.                   يصفّق الجمهور في ملاعبنا للاعب الغشاش الذي يسجل هدفا بلمسة يد أو يتظاهر بالسقوط في المنطقة المحرّمة ليفوز بركلة جزاء مجانية… إنّهم يعجبون بالغشاش بل ويغضبون من اللاعب الشريف الذي لا يمارس الغش… إنّهم كالأم التي تقبل ما يجلبه ابنها للبيت رغم علمها بفساد مصدره. (إضافة من المترجم)

10.                 يحدّثنا محمود درويش عن تعاطفه مع حارس المرمى في عزلته وهو يستعدّ لصدّ ركلة الجزاء. الكرة على مسافة قريبة جدا، والمرمى واسع جدّا جدّا على اليمين وعلى اليسار… والخصم يخفي نواياه.. وزملاؤه ممنوعون من معاضدته في الذود عن المرمى… والجمهور المساند والخصم يضغط بصمته الرصاصي القاتل من جهة وبتشويشه على التركيز من الجهة الأخرى… إنّه كمصارع روماني يواجه أسدا في الحلبة… له فرصة من ألف لينجح ولخصمه تسعمائة وتسع وتسعون فرصة للتسجيل… لذلك يتحوّل الحارس عندما ينجح في صدّ الرّكلة إلى بطل أسطوري، بينما تتحوّل العزلة إلى المهاجم الفاشل المتروك لحاله يصارع خيبته…

11.                 ساهم التلفزيون في تحويل الرياضة من لعبة إلى فرجة… ما عادت هناك لقطات هاربة… كل شيء قابل للتعليب في الذاكرة ومن ثمّة للاسترجاع… يمكن إعادة بعض اللقطات ببطء… يمكن التركيز على بعض التفاصيل من الوجه: تفجّر الفرح عند تسجيل الهدف، الانكسار عند الفشل، تقلّص العضلات وانشدادها عند التسديد أو القفز والجري والتدافع، التغامز بين اللاعبين ومشاكساتهم… صار اللاعبون يدركون ذلك ويحسبون له حسابا ففقدوا تلقائيتهم وخفت سحر اللعب… إنّ الرياضي الذي يعبّر عن فرحته عند تسجيل هدف بشكل متقن الإخراج ومعدّ سلفا، ليس رياضيا حقيقيا. إنّه كالسياسي الذي يحسب حساب كلّ كبيرة وصغيرة قبل مخاطبة الجمهور.. لم نعد نرى رياضيا يبكي من فرط الفرح غير عابئ بالحكم، وصرنا بدلا عن ذلك نشاهد راقصا يقود مجموعة بشكل كاريكاتوري.

12.                 عندما نتأمّل نسبة سياسيينا الذين تعاطوا اللعب (شطرنج، بولوت، رامي، شكبّة، موسيقى، رقص، مسرح) أو الرياضة (ماراطون، ملاكمة، دراجات) في صغرهم أو شبابهم، نفهم لماذا يديرون اللعبة السياسية في البلاد بهذا الشكل المقزّز. أعترف الآن بحماقتي في الاعتقاد بأنّ الطلبة الذين كانوا يكتفون بلعب البولوت دون غش في المشربة أو بممارسة الرياضة في النوادي الطلابية في احترام كامل للخصم، أقلّ ذكاء وشرفا ممّن كانوا يمارسون الغش السياسي والإيديولوجي. (إضافة من المترجم)

13.                 عازف الكمان أو الغيثارة، يسمّى عند الفرنجة لاعب الكمان أو الغيثارة، لأنّه يفعل ذلك بمتعة ويتسلّى بما يفعل بكامل الجدّية والحرّية. (إضافة من المترجم)

14.                 في المدّة التي يستغرقها العرض، يستمدّ الممثل حياته من حياة الشخصية التي يجسّدها ويتحلّى بصفاتها عنفا أو فظاظة أو فجاجة. وفي ما عدا ذلك، لا يعقل أن يتماهى الممثّل مع الشخصية التي يلعبها على الخشبة. ومهما كان أداؤه، لا يكون الممثّل ماكبث أو تارتوف أو دون خوان إلاّ مدّة العرض. فصعوده على الخشبة متقمّصا الشخصية التي سيلعب دورها يعني وضع قناع، بينما تكون مغادرته للخشبة مرادفا للتخلّص من ذلك القناع للعودة إلى الحياة العادية.

15.                 في الحياة العادية، لا يقبل مسار الزّمن الخطي الرجوع على الأعقاب. فالشباب الضائع لن يعود أبدا. ولكن سحر اللعب يسمح للخاسر بالمحافظة على إمكانية استرجاع أوراقه أو بيادقه والانطلاق مجدّدا كما لو أنّ شيئا لم يحصل. وكلّ جولة جديدة تنطلق تفتح زمنا بكرا، ولكن ليس بمعنى أنّه زمن معدوم الذّاكرة باعتبار عدم امّحاء ذكرى الهزائم السابقة.

16.                 بالنسبة لبني الإنسان، فلتعلّق المهام والمشاغل العاجلة بما تعنيه من جدّية، وليتح لهم قدر من الزمن يصرفونه على هواهم. وهذا كاف ليُبعث من جديد نشاط لا يمتّ بصلة للأنشطة الشاقة. هكذا ينشغل الناس بالغناء وبرسم خطوات راقصة ويخرجون رقعة شطرنج أو كرة.. إنّهم في كلمة، ينصرفون إلى اللعب. إنّ الإنسان، حالما ينغمس في اللعب، يعود بشكل أو بآخر إلى طفولته. فاللعب هو دائما استيقاظ للطفولة لدى الكبار، ذلك الزّمن الذي لا يعرف أو لا يريد أن يعرف شيئا عن الضغوطات التي تفرضها الحياة وعن العنف الذي يميّز العلاقات البشرية.

17.                 للّعب نسقه وإيقاعه على غرار ما للحياة من نسق وإيقاع، طالما أنّ اللعبة لا يمكن أن تستمرّ إلى ما لا نهاية. وإذا كانت اللعبة أو الفرجة تريد تجنيب المتفرّج أو اللاعب السقوط في الملل، فهذا معناه أن تتوقف في لحظة ما. على أنّه مهما بدا من شبه بينهما، فإنّ إيقاع اللعب لا يمت بصلة إلى إيقاع الحياة العادية.

18.                 اللعب بالكلمات هو دعوة إلى البحث عن معنى آخر لمنطوق الكلام. هكذا، يلعب الفكاهي بالكلمات مثلما يلعب البهلوان بالكرات. فهو يقيم في فضاء بلا جاذبية لأنّه لا يتحرّر من جسامة الحياة ومتطلّباته الملحّة.

19.                 عندما يلعب الناس فإنّهم يجسّدون حلما هو بمثابة الإطار العام لجميع أحلامهم الأخرى. إنّه الحلم بحرّية لا قيد عليها، بإمكانها تشكيل عالم بحجم أمل لا حدود له. اللعب نشاط دون مقابل، هدفه في ذاته، ولكنّه رغم ذلك ليس عبثا. فعندما ننخرط في زمن اللعب، فكأنّنا نضع الجزء الباقي من الحياة بين قوسين ونعلّق ضغوطاتها المتأكّدة. ولكن، إذا كان هذا الجزء الباقي من الحياة قابلا للتعليق، فليس ذلك إلاّ تأجيلا لزمن محدود وليس فسخا بالكامل، لأنّنا نعلم أنّه بمجرّد انتهاء زمن اللعب، سيسقط القوسان لنجد أنفسنا من جديد أمام الجدّي الذي ينتظرنا هناك.

20.                 اللعب في الحياة وليس اللعب بالحياة. فإذا كان اللعب يخفّف من ثقل العادة والرتابة، إلاّ أنّه لا يستطيع محو جسامة الحياة. ذلك أنّه إذا كان بإمكاننا أن نهزأ بألمنا، فإنّه لا يحقّ لنا أن نضحك من آلام الآخرين. وإذا كان اللعب يقوم على ضوابط تؤسّس منطقه وتوازنه الدّاخليين، فلا بدّ له أيضا أن يعرف حدوده ويعترف بها، حتى لا يتحوّل إلى كلّ شيء في الحياة.

ترجمة بتصرّف مع محاورة لمقتطفات من نص لفرنسوا شيرباز على الموقع : www.contrepointphilosophique.ch.

أنجزها جلال الرويسي أستاذ بالمعهد العالي للتوثيق بجامعة منّوبة

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى